نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية اليوم الأربعاء مقطع فيديو مروعًا يظهر فيه عنصر من قوات النظام السوري وهو يقوم بعملية قتل لمدنيين ووضعهم في مقبرة جماعية وإحراق جثثهم. وبحسب تقرير الصحيفة، تعود هذه الجريمة إلى العام 2013 وتحديدًا في منطقة حي التضامن جنوب العاصمة السورية، أين أقدم عنصر ينتمي إلى الفرع 227 وهو جهاز يتبع المخابرات العسكرية بارتكاب مذبحة بحق مجموعة من المدنيين تم القبض عليهم، وكانوا معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي، وساروا نحو حفرة الإعدام غير مدركين أنهم على وشك أن يقتلوا بالرصاص.
نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية فيديو مروعًا يظهر فيه عنصر من النظام السوري وهو يقوم بعملية قتل لمدنيين ووضعهم في مقبرة جماعية
القصة الكاملة لإحدى أبشع جرائم النظام السوري
في تفاصيل الكشف عن الجريمة، تقول الغارديان إنه "في صباح ربيعي قبل ثلاث سنوات، تسلم مجند جديد في إحدى الميليشيات السورية الموالية للنظام السوري حاسوبًا محمولًا تابعًا لأحد الأجهزة الأمنية لبشار الأسد. فتح الشاشة ونقر بفضول على ملف فيديو، وهي خطوة شجاعة بالنظر إلى العواقب المتوقعة". تتابع الصحيفة: "كانت اللقطات غير ثابتة في البداية، قبل أن تقترب من حفرة محفورة حديثًا في الأرض بين مبنيين تعرضا للقصف بالقذائف والرصاص، أين جثا ضابط مخابرات على ركبتيه بالقرب من حافة الحفرة مرتديًا زيًا عسكريًا وقبعة صيد، يلوح ببندقية هجومية ويصدر الأوامر وهو يصيح".
تنقل الصحيفة تفاصيل الفيديو المرعبة وتوضح أن رجل الميليشيا المبتدئ تجمد وهو يواصل المشاهدة. "تم اقتياد رجل معصوب العينين من مرفقه وطلب منه الركض نحو الحفرة العملاقة التي لم يكن يعلم أنها أمامه، كما أنه لم يتوقع دوي الرصاص في جسده بينما كان يسقط على كومة من القتلى تحته. واحدًا تلو الآخر، تبعه المزيد من المعتقلين المطمئنين. قيل للبعض إنهم كانوا يركضون هربًا من قناص قريب، بينما تعرض البعض الآخر للسخرية والإيذاء في اللحظات الأخيرة من حياتهم. بدا أن الكثيرين يعتقدون أن القتلة يقودونهم بطريقة ما إلى بر الأمان". تشرح الصحيفة: "تم قتل ما لا يقل عن 41 رجلًا في مقبرة جماعية في ضاحية التضامن بدمشق. وإلى جانب أكوام التراب المتكدسة، سكب القتلة الوقود على الجثث وأشعلوها، ضاحكين وهم يتسترون حرفيًا على جريمة حرب على بعد عدة أميال فقط من مقر السلطة في سوريا".
يتابع التقرير أن شعورًا بالغثيان قد ساد لدى المجند، الذي قرر على الفور أن اللقطات بحاجة إلى أن تخرج إلى العالم. قاده هذا القرار بعد ثلاث سنوات إلى رحلة محفوفة بالمخاطر في واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ سوريا الحديث، حيث تواصل في البداية مع اثنين من الأكاديميين الذين أمضوا سنوات في محاولة تحديد هوية الرجل الذي قام بالمذبحة وإقناعه بالاعتراف بدوره.
تعود الغارديان وتقدم تفاصيل دقيقة عن الطريقة التي تم فيها قلب الطاولة على مرتكبي الجريمة. حيث تسرد ما حدث وكيف قام باحثان في أمستردام بإغراء ضابط عبر شخصية وهمية على الإنترنت وخداعه للدفع به للكشف عن أسرار حرب الأسد القذرة، والجرائم غير المسبوقة التي ارتكبها النظام ولكنه أنكرها وحمل الجهاديين مسؤوليتها.
يقول مراسل صحيفة الغارديان في الشرق الأوسط وصاحب التقرير مارتن شولوف إن منطق الجريمة والإرهاب في سوريا يتم تكراره اليوم وبعد 9 أعوام في أوكرانيا حيث تحولت العملية التي أطلق عليها الرئيس فلاديمير بوتين العملية العسكرية الخاصة إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق البلاد، وكانت وحدات الاستخبارات العسكرية في هذه العملية في مقدمة من ارتكب الوحشية وزرع الخوف في قلوب السكان من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل الذي يشبه محاولات الأسد الوحشية التمسك بالسلطة.
هذا التشابه لا يبدو مصادفة، كما يقترح التقرير، حيث تدربت أجهزة الاستخبارات السورية على يد ضباط سوفيات وضباط من جهاز الشتازي في فترة الستينات من القرن الماضي وتعلموا على أيديهم فن التخويف. فقد كان الخوف هو الوسيلة الرادعة المتوفرة لنظام الأسد، واستخدم كل ما لديه لزرعه في قلوب الناس. ولم يكن الضحايا من المعارضين فقط بل المدنيين. يلخص شولوف ما حدث قائلًا: "كانت رسالة قتل المدنيين في حي التضامن واضحة، لا تفكروا حتى بمعارضتنا".
سرب المصدر الفيديو أولًا إلى ناشطة في المعارضة السورية مقيمة في فرنسا وهي أنصار شهود والبرفسور أوغور أوميت أنجور من مركز الهولوكوست والإبادة بجامعة أمستردام، حيث كان عليه مقاومة الخوف من الاعتقال والقتل بالإضافة للضغط النفسي الناتج عن نبذ عائلته العلوية له. وكان التحدي على أنصار وأوغور هو العثور على الرجل صاحب قبعة الصيد الذي ظهر في الفيديو، واستخدما ضمن هذه المحاولة الشيء الوحيد الذي اعتقدا أنه قد يساعد في العملية وهو خلق شخصية وهمية.
تعتبر أنصار من أشد المنتقدين لنظام الأسد مع أنها تنتمي إلى عائلة كانت على علاقة جيدة مع النظام. انتقلت إلى بيروت في العام 2013 ومن ثم إلى أمستردام بعد عامين حيث التقت مع أوغور، وكلاهما كانت لديه رغبة بتوثيق ما اعتقدا أنها جرائم إبادة ارتكبت في سوريا. وكان تجميع الشهادات من الناجين إحدى الطرق، فيما كان الحديث مع الجناة طريقة أخرى، أما كسر شيفرة الصمت المحيطة بالنظام فقد كانت مهمة شبه مستحيلة.
لكن أنصار كانت لديها خطة. لقد قررت اللجوء إلى الإنترنت، والبحث عن المسؤولين الأمنيين في النظام والتظاهر بأنها معجبة بالنظام وبأنها تدعم قضيته. يشير أوغور إلى أن "المشكلة مع نظام الأسد أنه من الصعب دراسته، فلا تستطيع المشي في دمشق ملوحًا بيدك وتقول أنا عالم اجتماع من أمستردام وأريد طرح أسئلة". هنا يؤكد أوغور أنهم توصلوا إلى نتيجة مفادها بأنهم بحاجة إلى شخصية وهمية ويجب أن "تكون بنتًا علوية شابة. ووجدت أنصار أن الجواسيس والضباط في سوريا يستخدمون فيسبوك، ولم يكونوا رغم عملهم السري يخفون نشاطهم على منصات التواصل. ولهذا قررت اختيار اسم مستعار "آنا ش"، وطلبت من مصور صديق التقاط صورة لها، وعززت في صفحتها من المحتوى الذي يمدح الأسد وعائلته وبدأت بتجنيد الأصدقاء".
تواصل الغارديان سرد التفاصيل: "بحثت أنصار في فيسبوك على مدى عامين عن مشتبه بهم محتملين، وعندما وجدت أحدًا أخبرته أنها باحثة تدرس نظام الأسد، وأصبحت تجيد طريقة التخفي، وفهمت طبيعة النظام، وعملت جنبًا إلى جنب مع أوغور في ترتيب النكات وطرق الحوار التي تساعدها في قضيتها". ومع الوقت تحولت "آنا ش" لشخصية معروفة لدى رجال الأمن بل الملجأ للكشف عن همومهم. تتحدث أنصار عن ذلك، قائلة "كانوا يبحثون عن شخص للتحدث معه ومشاركته التجربة"، وهو ما يؤكده أوغور، الذي يقول إنه أصبح بعض الأشخاص متعلقين بـ "آنا ش" وصار بعضهم يحادثها في منتصف الليل.
وعلى مدى عامين، جسدت أنصار الشخصية التي تبنتها لدرجة أنها شعرت بالغضب، إذ إن الكثير ممن تحدثت إليهم كانوا جزءًا ناشطًا في آلة القتل. أثرت تلك العلاقات على صحة أنصار النفسية وحياتها الاجتماعية، إلا أن العناء كان يستحق من وجهة نظرها، ففي حالة العثور على المسلح في الفيديو يمكنها أن تبدأ في تحقيق العدالة لعائلات من قتلهم، وربما تستطيع محاسبة عدد غير قليل من المشاركين في أسوأ الجرائم في الحرب السورية.
تشير الصحيفة إلى أن الاختراق حدث في آذار/مارس 2021. فقد استطاعت صفحة "آنا ش" جذب أكثر من 500 معجب من مسؤولي النظام والعاملين معه، ومن بينهم شخص أطلق على نفسه أمجد يوسف، وكان يشبه إلى حد كبير المسلح صاحب قبعة الصيد، التي أرهقت نفسها في البحث عنه. بعد ذلك، تلقت أنصار معلومة من مصدر أن القاتل كان رائدًا في فرع 227 في المخابرات العسكرية السورية. تصف أنصار لحظة الاكتشاف: "كان الارتياح لا يوصف، هنا شخص يحمل المفتاح وعليك دفعه للحديث".
تتذكر أنصار جيدًا اللحظة التي أرسلت فيها طلب الصداقة، والإثارة التي شعرت بها عندما قبل فريستها الطلب. بدأت أنصار بالحديث مع الرجل. كانت المكالمة الأولى عابرة. ارتاب أمجد وأنهى المكالمة بسرعة، لكن شيئًا ما في تلك المحادثة الأولى أثار فضوله. بعد ثلاثة أشهر، تحدث معها مرة ثانية، وفعلت "آنا ش" كل ما بيدها لجعله يتكلم، بما في ذلك الإذعان لكل أسئلته.
سألت أنصار أمجد العديد من الأسئلة لاحقًا عن دوره ووظيفته وعلاقته بالنظام السوري. أصبح الضابط المتهم بأحد أبشع جرائم النظام السوري، هو من يجلس على كرسي التحقيق بعد أن أجابت "آنا ش" على كل أسئلته. تتذكر أنصار تلك اللحظات، موضحة: "كان هذا جهد سنوات للكشف عنهم وليس مقابلة واحدة، ويجب إقناعهم بأنك تقوم بدراسة". وظلت وشخصيتها البديلة "آنا ش" أمام شاشة الكومبيوتر طوال صيف العام الماضي وبحضور أوغور الذي يراقب ما يحدث بعيدًا عن الشاشة، وهي تحاول إقناع أمجد والدخول في عقله وجعله يتحدث لجمع المعلومات.
دخلا صفحته على فيسبوك وبحثا عن أدلة ما. عثروا على صورة لشقيقه الأصغر وقصيدة كتبها أمجد بعد وفاته عام 2013 وقبل أربعة أشهر من مذبحة التضامن. استمرت "آنا ش" في الضغط عليه لإجراء مكالمة أخرى، لكنه ظل مترددًا. وفي وقت متأخر من حزيران/يونيو تلقت رسالة عبر فيسبوك من أمجد، وكانت هذه فرصتها لجعله يعترف. كان مرتاحًا هذه المرة. استغلت اللحظة وسألته عن أخيه، فبدأ القاتل والمنفذ المخيف يبكي. أخبرها أنه يجب عليه البقاء في الجيش على الرغم من خطر الدفع بوالدته إلى فقد ابن آخر. قال لقد فعلت كل شيء. "قتلت كثيرًا وانتقمت"، ثم أغلق المكالمة ولم يرد على المكالمات لأشهر إلا من خلال دردشات عابرة، حيث سأل عن "آنا ش" ومتى ستعود إلى سوريا، وبدأ يتصرف كصديق غيور.
شعرت أنصار أن شخصيتها البديلة قد وصلت حدها وأنه يجب على "آنا ش" أخذ راحة، فقد اتصلت مع حوالي 200 مسؤول في النظام بعضهم متورط في جرائم مباشرة وساعدوا الأسد في حربه الوحشية ليتشبث بالحكم. وفي أواخر العام الماضي، بعد أن تحدثت أنصار إلى امرأة اتهمت أمجد بالاعتداء عليها، اكتفت وقررت التخلص من شخصية "آنا ش". طبعت مع أوغور كل المراسلات في صفحتها، وقررا أن الوقت قد حان للتركيز على المعلومات التي جمعاها ولم يكن لديهما وقت لتحليلها. لكن ظلت مهمة وحيدة لم يقوما بها، وهي مواجهة أمجد بجريمته. أرسلت أنصار هذه المرة باسمها الحقيقي عبر فيسبوك لقطات فيديو قصيرة من 14 ثانية لأمجد، وكان أول سؤال طرحه، هل "هذا أنا في الفيديو؟ نعم، نعم هذا أنا، لكن ماذا يقول الفيديو؟ أنا أعتقل شخصًا وهذه هي مهمتي".
وعندما اكتشف تداعيات ما رآه، بدأ يصب غضبه على ميليشيات الدفاع الوطني التي ينتمي لها العنصر الصاعد الذي سرب الفيديو، ووصفهم بالقتلة والبلطجية، وقال إنه لم يكن مثلهم، ثم غير نبرته بعد أن شعر بحجم ورطته وكتب رسالة الى أنصار "أنا فخور بما فعلت"، وهدد بقتلها وعائلتها.
توقفت أنصار وأوغور عن التواصل مع أمجد وحظراه من حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي منذ شباط/فبراير الماضي. ومع ذلك حاول أمجد الوصول إليهما لأنه يعرف تداعيات هذا الاعتراف مع بدء المحاكمات في ألمانيا ضد الأشخاص المرتبطين مع نظام الأسد. حيث إن ما كشف عنه في المحادثات والفيديو الذي صور لمذبحة حي التضامن هو دليل أقوى من تلك التي توفرت للمحاكم الألمانية.
على مدى عامين، جسدت أنصار الشخصية التي تبنتها لدرجة أنها شعرت بالغضب، إذ إن الكثير ممن تحدثت إليهم كانوا جزءًا ناشطًا في آلة القتل
تختم الغارديان تحقيقها بالحديث عن مصير المجند الذي سرب الفيديو، وتقول إنه "في نهاية هذه الدراما كان هناك شخص يجب توفير الأمن له، المصدر الذي وفر اللقطات. كانت رحلة الخروج من سوريا صعبة، حيث سافر من دمشق إلى حلب، ولم يستطع الخروج إلا بعد رشوة ضابط في الفرقة الرابعة في الجيش السوري بـ 1500 دولار، ومنها سافر إلى تركيا حيث التقته أنصار هناك".