في رحلتي مع الأستاذ ثائر يرتة، رئيس البعثة الأثرية السورية للتنقيب في جبل البلعاس، كان المشهد من أمام المغارة التي كانت مسكونة من العصر النطوفيّ مهيبًا وساحرًا، فهذه هي المغارة التي اكتشف رأس النسر أمامها منحوتًا في الصخر وكأنه حرز وحامٍ لسكانها.
كان الإنسان عبر تاريخه ينسب نفسه إلى جد أكبر، وغالبًا ما يكون حيوانًا قويًا
تقع في منطقة خصبة وغنية بأشجار البطم وخيرات الطبيعة، وكان الموقع الذي استخدمه ساكنها قبل عشرة آلاف عامًا موقعًا استراتيجيًا، يمكّن صاحبه من مسح المنطقة بصريًا لاصطياد فرائسه، تمامًا كما يفعل النسر حين يحلق في السماء.
اقرأ/ي أيضًا: الرمز والإنسان.. أسطورة النسر السوري (1-2)
أمام المغارة كانت هناك مصطبة مهّدها ذلك الإنسان لممارسة أعمال الحياة اليومية، وبجانبها حفر قناة في الصخر لتصريف المياه. هندسة بدئية وليست بدائية أبدًا، لأنها لا تزال تشكل أسس الهندسة المعمارية لإنسان القرن الواحد والعشرين.
كان النسر المنحوت في الصخر، يقبع أمام باب المغارة كالحارس لساكنيها فهو يشبه الإله الحامي والصنم في المعبد، وبه يستعين الإنسان ويطمئن إلى أن قوةً عظيمة كقوة النسر تحميه وتحمي أهله وتبعد عنه الشرور التي تحيط به، ما يحيلنا إلى التأكيد أن الوعي الديني للإنسان ساهم في تطوره الأخلاقي وليس كما يحدث اليوم في عالم البشر حيث ينحو البعد الديني منحى تبرير كل القذارات وسفك الدماء باسم الإله.
نعلم أن الإنسان عبر تاريخه كان ينسب نفسه في مرحلة من المراحل إلى جد أكبر، وغالبًا ما يكون حيوانًا قويًا وهو ما سمي بالعصر "الطوطمي"، نجد ذلك حاضرًا حتى في أنساب جزيرة العرب فهناك قبائل كثيرة انتسب إلى حيوان بعينيه مثل: بني كلب وبني جحش، وبني أسد... إلخ.
ذلك الطوطم كان معين الإنسان القديم في صراعه للسيطرة على الطبيعة، وعلى غيره من الحيوانات، ثم يظهر الإنسان مسيطرًا على جميع أنواع الحيوانات لا سيما بعد ثورة التدجين، لذلك فطبيعي أن نرى في وقت لاحق تماثيل آلهة الخصب إنانا أوعشتار والأسود تحت قدميها والطيور الجارحة تحت يديها، في إيحاء إلى ترويضها لوحوش الأرض والسماء.
استعان الإنسان واطمئن إليه، لأنه أعتقد أن قوةً عظيمة كقوة النسر تبعد عنه الشرور التي تحيط به
هذا الفكر الطوطمي لا يزال مسيطرًا اليوم على شعارات الدول وحتى الأحزاب، حيث نجد في الولايات المتحدة مثلًا أن شعار الحزب الجمهوري هو الفيل، وشعار الحزب الديمقراطي هو الحمار على سبيل المثال، وأصبح الدب رمز روسيا والتنين رمز الصين... إلخ.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "مرحبا"
حرص رئيس البعثة الأثرية إلى جبال البلعاس ثائر يرتة على التأكيد خلال حديثه عن ثورة الرموز، التي شهدتها سوريا في الألف العاشر قبل الميلاد :"إن الأثاريين يستقرؤون إيحاءات عن الحياة المعاشة للإنسان القديم من خلال النقوش التي تظهر في أعمال التنقيب" نتيجة لغياب النصوص المكتوبة، وهذا عمل شاق ومضنٍ بالنسبة للباحثين.
يقول يرتة: "بالنسبة لباحث يقرأ كثيرًا من الرموز في الفترات المختلفة فإن رمز النسر ظهر في فترات مختلفة، وكان يمثل الحياة والموت بالنسبة للإنسان، فقد وجدنا لوحة جدارية ملونة بشتل هيوك (الألف السابع والسادس قبل الميلاد) عليها صور لنسور فاردة الجناحين، تحلق فوق مجموعة أشخاص مقطوعي الرأس، إضافة إلى لوحات أقدم ظهرت في الألف العاشر قبل الميلاد، توحي بأن النسر يمثل الموت بالنسبة لهذا الإنسان".
في تل العبر، القرية القابعة على نهر الفرات الأوسط، وجدت قطعة من لوح حجري لا تتجاوز 10 سم عليها نسور تحوم حول وعل تعود إلى 9300 قبل الميلاد، يقول يرتة "كثيرون يخلطون بين النسور والعقاب لأنّها رسوم تجريدية، وجدت بأماكن متفرقة وهي تمثل بداية نحت الإنسان للأشكال"، لذلك يجب أن تقرأ إيحاءاتها بدقة. يتابع يرتة: "طائر النسر الموجود أمام مغارة البلعاس يدل على تغير في نفسية الإنسان الذي عاش صياد قبل 12000 سنة سبقت الميلاد، وهي توحي بأن تطورًا سيكولوجيا طرأ على نظرته لما يحيط به، فتجسيد طائر النسر على باب مغارة هو تعبير عن استحضار دائم لذكرى هذا الطائر المهيب. ويمكن القول إن الإنسان ومن خلال تلك الرموز أصبح لديه نظرة ما ورائية زادت بطريقة مطردة مع عملية سيطرته على الطبيعة".
طبعًا راقب الإنسان ذلك النسر وهو يحلق فوقه، فوجد أنه "عال، ناظر، مراقب، يرى كل شيء، فيما هو إنسان محدود النظر" ما أعطى طائر النسر في الفكر الإنساني الآخذ في التطور نظرة احترام ورهبة وتقديس.
اقرأ/ي أيضًا: "الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم
من وجهة نظر ميثولوجية بحتة، واستنادًا إلى ما قدمته وتقدمه نقوش أسلافنا القدماء الذين عاشوا قبل آلاف السنين، فإن هناك إيحاءات فلسفية وفكرية يمكن أن نستوحها من إيحاءات رموز النسر أولى بذور الفكر الديني. فاكتشاف رأس نسر في جبل البلعاس على باب مغارة يشكل مدخلًا مهمًا لتطور نظرة الإنسان إلى محيطه، فالإنسان منتصب القامة هو الكائن الوحيد على سطح الأرض الذي تمكن من رفع رأسه تمامًا إلى السماء، وهذا أتاح له مراقبتها ليلًا ونهارًا ولساعات وأيام وشهور وسنين طوال. تأمل واستنتج عبر ملاحظات وتراكمات فكرية ساعد تطوره البيولوجي خلالها على تنميتها والخروج باستدلالات فلسفية ودينية، بدئية وليست بدائية، على أن كائنات تعيش في عالم علوي تراقب الإنسان وغيره من الكائنات الحية.
أعتقد الإنسان أن تجسيد النسر بالنحت يجعل قواه الطائر الجبارة تسكن هذا الحجر
وبقراءة متأنية لاهتمام الفنان الأول بطائر النسر "ملك السماء" وغيره الطيور الجارحة الحرة، وفي وضعيات مختلفة لا سيما وضعيته وهو فارد جناحيه أي وضعية الطيران، نستوحي أن الإنسان شغله هذا الكائن الذي في السماء أكثر مما شغله على الأرض، فالنسر مختلف عن هذا الإنسان الساكن مع وحوش الغابة، والقابع تحت براثنها في صراع وجودي على الموت والحياة، هو كائن علوي إلهي، أما الإنسان كائن أرضي مثله مثل الأسود والفهود وقطعان الماشية وديدان الأرض، لذلك رأى أن يستعين بقوى النسر الخارقة على أعدائه.
وأعتقد أن تجسيد طائر النسر -العلي، الجبّار، المترقب، الملك، سيد السماء- في النقوش والتماثيل الصخرية دفعت الإنسان الأول إلى تجسيده على الحجر وأمام المغاور، علَّ قواه الجبارة تسكن هذا الحجر وتحميه كي يبقى أمام منزله/ معبده، كي لا تهجر قواه ذلك المكان، وربما قدم له الأضاحي والقرابين كي يحافظ على قواه السحرية التي سيكرسها ذلك النسر المتفرغ لمهام الحماية على باب المغارة.
وفعلًا استمد الإنسان البدئي الذي لا يملك إلا عقله وخياله، قواه وطاقاته العجيبة في السيطرة على الطبيعة من معلمه "الساكن في الأعالي"، ثم انتقل إلى ما وراء العالم العلوي/ السماء ليحلق بتفكيره خالقًا سبع سموات جعل في آخرها مثواه الآخير.
لقد حلق الإنسان بتفكيره كما حلق النسر في السماء، ونشر سلطته على باقي الكائنات كنسر ناشر الجناحين. فكان النسر "أسطورة " سورية بامتياز، استخدمه رمزًا للقوة والسيطرة والمهابة، كما جعل منه جسرًا للعبور إلى السماء وسيدًا على الموت والحياة.
اقرأ/ي أيضًا: