قبل ثلاثة وعشرين عامًا من الآن، بدأت الروائية السّورية مها حسن مشوارها الأدبيّ بإصدارها لروايتها الأولى "اللامتناهي – سيرة الآخر". ومنذ ذلك الوقت إلى الآن، صدر لها ما يزيد عن 10 روايات، هي، بالإضافة إلى المذكورة سابقًا: "لوحة الغلاف – جدران الخيبة أعلى" (2002)، "تراتيل العدم" (2009)، "حبل سرّي" (2010)، "بنات البراري" (2011)، "طبول الحب" (2012)، "الراويات" و"نفق الوجود" (2014)، "مترو حلب" (2016)، "عمت صباحًا أيتها الحرب" (2017)، "حي الدهشة" (2018).
هنا حوار معها.
- دعينا نبدأ من قلق الجملة الأولى من الرواية، كيف تتعاملين معها عادةً؟ وكيف تبدئين روايتك؟
ليست لدي هذه المعاناة. لأنّني أكتب في رأسي قبل أن أذهب إلى التدوين. أترك النص يتفاعل بداخلي، وأتصوَّره أيضًا مكتوبًا، إلى أن أصل إلى لحظة أشعر فيها أنّني طالبة ذاهبة إلى امتحان، وهنا أعيد على نفسي قراءة النص الشفهي الذي أخاف من نسيانه، لأذهب حينها إلى التدوين. أي أنّني لا أستجيب للتدوين إن لم يأخذ النص مكانه داخل ذاكرتي ومخيلتي. وعلى سبيل المثال، إنّ رواية "حيّ الدهشة" كانت نتاج شهور طويلة من مراجعة الحكاية شفهيًا وتصوُّر شخوصها. ولكن، حين بدأت التدوين، كان عليّ فقط الاشتغال على الهندسة المكانية وترتيب المقاطع المتدفقة على شاشة حاسوبي. ودعني أخبرك هنا عن طريقة أخرى تبدأ فيها أعمالي، وهي: "الصورة".
مها حسن: الصورة التي تعبر رأسي ثم تتضخّم وتأخذ شكل الحكاية والشخوص، هي مفتاح الحكايات القادمة في الرواية
غالبًا، إنّ الصورة التي تعبر رأسي ثم تتضخّم وتأخذ شكل الحكاية والشخوص، هي مفتاح الحكايات القادمة في الرواية التي أشتغل عليها. في "حي الدهشة" كانت صورة سيارة الطبيبة التي تُركن في حيّ شعبيّ، أمام محل الحدّاد، هي مفتاح تدفق شخصيات الرواية، أي الطبيبة والحدّاد. ثمّ الشخوص المتفرّعة عنهما لتطريز الحكاية. أحيانًا تقفز جملة من مكان ما، تلقائيًا، كأنّها كُتبت من تلقاء نفسها، لتُنشد نفسها بإيقاع خاص، كما في رواية "تراتيل العدم"، وتجذبني للركض خلفها، وتفكيكها، وخلق فضاءاتها التي تتيح لها الظهور والنمو.
اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني
ما أردت قوله ضمن هذه التنويعات للبدء، بأنّه لا توجد وصفة ثابتة للبداية. كلّ عمل يحمل أدواته الخاصّة. حتى أنّ البعض قد يشعر بأنّني أبالغ إذا قلت بأنّني مجرد معمل، يتلقّى الصور والجمل، ويعيد تركيبها وصياغتها، وفق كتابة منطقية. لكنّ المادة الخام بالنسبة لي، مجهولة المنشأ.
- روايتك الأخيرة "حيّ الدهشة" جاءت مختلفةً عمّا سبقها من حيث الموضوع والفكرة، إذ إنّها عادت إلى مدينة حلب قبل الحرب، واستعادتها بصورتها السابقة، هل جاءت الرواية لترثي حلب اليوم عبر استعادة حلب الأمس؟ وهل هي بداية القطيعة مع الحرب، أدبيًا؟
بالعودة إلى "المادّة الخام" التي تحدّثت عنها كمصدر للكتابة، فقد كانت سنوات طفولتي المنسية، هي المحرّض لولادة هذا النص. كنت أذهب برفقة أمي، بعمر الخمس إلى عشر سنوات، إلى منزل جدّي في حيّ "الهلك" الشعبيّ. ثم انتقلت عائلة أمي إلى حيّ آخر، هو حيّ "الأشرفية" في حلب، وقد ورد ذكره في روايتي "حبل سري".
من سنوات الطفولة المندهشة، التي كانت تقارن بين عوالم الأحياء والبيوت والعلاقات التي تعرّضت لها في طفولتي تلك، نحتُّ شخوصي. اختلط ذلك، بالعودة للحديث عن معمل الكتابة، مع ذاكرتي المندهشة أيضًا، أمام عالم الشّاشة الصغيرة. حين كنت في ذلك العمر، لم يكن لدينا تلفاز، أذكر أنّني ذهبت إلى بيت أصدقاء لأبي، وكنت في سن التّاسعة أو العاشرة، لمشاهدة مسلسل "اللص والكلاب"، ثمّ صار لدينا تلفاز، ورحت أتابع شغف أمي بالمسلسلات المصرية، كانت الموجة آنذاك ولم تكن المسلسلات التركية المدبلجة قد ظهرت.
مها حسن: أظن أنّني استجبتُ في "حي الدهشة" لصوت الطفلة الباقية في حلب
إنّ متابعتي لشغف أمي، هو الذي حرّضني على محاولة تقليدها بالاستمتاع بذلك العالم. أظن أنّني استجبتُ في "حي الدهشة" لصوت الطفلة الباقية في حلب، وكذلك لرغبتها في تقليد أمّها. كانت أمّي تعشق سميرة توفيق، وتنظّف البيت وهي تستمع إلى أغانيها، لهذا ربّما كانت بداية الرواية من مشهد تنظيف البيت على صوت مغنية أمي المفضّلة. لم أسع في هذا العمل، للإتيان بقواعد عاقلة أشتغل عليها ضدّ الحرب، ولكنّ اللاوعي الإبداعي، وأعتذر عن المصطلح إن بدا نرجسيًا، وهذا ما لا أعنيه بتاتًا، هذا اللاوعي، ينتج أدواته.
ربما كان قانوني اللاواعي هو الانتصار لشباب أمّي، التي قتلتها الحرب في "عمتِ صباحًا أيتها الحرب". أنا أدعو لتفكيك العمل الروائيّ عبر ثيمات الكاتب النفسية والفردية، أكثر من الذهاب لقوانين عامّة. أي أنّه برأيي، لم أستجب في هذه الرواية لنداءات جماعية ولأصوات ضحايا الحرب، بل انسحبت نحو عالم صغير ومغلق، أتكوّر فيه لأحمي نفسي وذاكرتي وكتابتي من رعب الحرب.
إنّ ما أقوله ينبغي ألاّ يكون من اشتغالي، أعتقد أنّ هذا عمل النقد، ولكنّني أستفيد من كل سؤال يطرح عليّ، كي أطرحه على معملي الداخلي، وأحاول تفكيك وصفاتي الخاصة بي، والتي تتقاطع في النهاية، مع تجارب غيري من الأصدقاء والصديقات الذين يكتبون في ظروف معقّدة تحتاج إلى الكثير من المراجعات والتأمل لفهم ما يحدث في داخلنا ومن وحولنا. أمّا عن القول بأنّ هذه الرواية هي بداية القطيعة مع الحرب، فلا أعتقد، ولكن ربّما أفسح الطريق أمام كتابتي القادمة، للاشتغال على الحرب روائيًا، بعد أن أنهكتني الكتابة شبه التوثيقية عنها. أظنّ أنّ كتابتي عن الحرب لم تبدأ بعد.
اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها
- في سياق الحديث عن مدينة حلب، نجد أنّها حاضرة في غالبية رواياتك، وتصل أحيانًا لأن تكون شخصيّة لها حضورها الكامل في الرواية، هل تعوّلين على هذه المدينة في بناء عمارتك الروائية إلى هذا الحد؟
في حياتي مدينتان أساسيتان: حلب وباريس. عشتُ ثمانية عشر عامًا في حلب، لم أر فيها أية مدينة سورية إلا بشكل عابر. ثمّ انتقلت إلى باريس لأمضي سنواتي التالية. لهذا فأنا عالقة داخل هذين الفضاءين، وربما لهذا كتبت "مترو حلب" لأدمج هذين العالمين الحميمين بالنسبة لي. إنّ حلب هي العشق الأول، الفطري، التلقائي، وباريس هي العشق الناضج المُختار، ربّما ثمّة وفاء ساذج في داخلي لهذين الغرامين، ولا أستطيع خيانتهما بخلق شخوصي في فضاءات أخرى.
أستطيع تمرير أبطالي وحكاياتي في أمكنة ثالثة: أمستردام، القاهرة، بيروت. ولكنّني لا أستطيع ترك هؤلاء الشخوص والحكايات مطولًا في هذه الأمكنة، أنا وفيّة للمكان. أعتقد أنّني أحتاج للعيش في القاهرة لخمس سنوات مثلًا، حتّى أجد فضائي السردي هناك. هذا حلم آخر مؤجّل: الكتابة من داخل القاهرة.
- تبدأ روايتك "الراويات" بعبارة "خُلقت لأروي"، وهذا ما أكّدته بنفسك في عدّة حواراتٍ سابقة، لعلّ هذه العبارة تدفعنا لسؤالك من الذي سار بكِ أوّلًا إلى الحكاية وشهوة الحكي؟ ووجّه خطواتكِ الأولى نحو الكتابة؟
في "عمت صباحًا أيتها الحرب" تحدّثت أمّي عن هذا، قالت إنّها أورثتني السرد. أنا ابنة بيئة حكّاءة. نحن نولد محاطين بالحكايات، منذ الجدّات المحيطات بنا، اللواتي يؤسِّسن مخيلاتنا، وحتّى السرديات الخرافية المرافقة لنشأة العالم، وفق أساطير وديانات متعدّدة. أظنّ أنّ البيئة الشرقية غنية بالحكايات. وأنا مولعة بالحكّاءات النساء، لأنّ للنساء قدرة مدهشة في عالمنا الشرقيّ، وبجميع مكوّناته، عرب وكرد وتركمان وشركس، على نقل الحكايات وتحويرها.
مها حسن: أنا مدينة لجميع النساء اللواتي ظهرن في حياتي وكان لهنّ دور في تزويدي بهذا الشغف، شغف الحكي
النساء مفتونات بالتفاصيل، من هنا تأتي الهجمات الذكورية لاتّهام النساء بالثرثرة. أنا مؤمنة أنّ كلّ امرأة شرقية هي امرأة حكّاءة، وعليها فقط أن تتعلّم تقنيات تحويل الحكايات/ المواد الخام إلى رؤى إبداعية وطرق سردية مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: أحمد شافعي: ما كنتُ لأحتمل هذا العالم لولا الترجمة!
أنا مدينة لجميع النساء اللواتي ظهرن في حياتي وكان لهنّ دور في تزويدي بهذا الشغف، شغف الحكي، ومنهنّ جارتي العلوية التي هربت من عائلتها لتعيش قصة غرامها مع جارنا من طائفة أخرى. وأيضًا، جارتي الكردية التي لم تكن تعرف العربية وكنت أفقد نصف كلامها الذي لا أفهمه ولكنّني أشعر بها وأتتبّع انفعالاتها وهي تسرد الحكايات. بالإضافة إلى جدّتي التركية التي كانت تطرّز كلامها العربيّ بألفاظ تركية. ناهيك عن جدّتي الكردية التي كانت تجتهد وتجهد للعثور على المفردات العربية. وعمّاتي الكرديات أمازونيات التركيب النفسي واللواتي وردت أشباههنّ في "حبل سري". وجدّتي العربية التي كانت تتمتع بصوت وتغنّي لأسمهان وليلى مراد.
فضلًا عن أمي الساردة الخارقة في حياتي، التي ألهمتني الكثير عبر تقنيتها المدهشة للسرد، وهي تقرأ في الفنجان، للجارات والقريبات، وتخترع حكايات ورموز تفكِّكها وفق معملها السردي الخاص بها، وأخريات كثيرات.
- لا يُمكننا تجاهل إقامتك منذ سنواتٍ طويلة في فرنسا، وتاليًا، هل من الممكن أن تحضر الكتابة هنا بوصفها خيطًا يربطك ويصلك بمدينتك الأولى وعائلتك وبيئتك؟ وكيف تصف لنا مها حسن الكتابة عن مكانٍ من مكانٍ آخر؟
لطالما أفقت من نومي متسائلة أين أنا؟ أعتبر نفسي محظوظة بهذه الحياة غير الثابتة، وغير البديهية. أعيش ككائن خرافي متنقّلة بين الشك واليقين. أعيش حياتين كما قلت في رواية "الراويات": "حياة المخيلة، وحياة الواقع". ولأنّني كاتبة و"خُلقت لأروي"، فإنّ حياة المخيلة هي الأقرب لي، وهي الأكثر حقيقية.
كتبتُ منذ أيام عن عيشي المماثل لحلم الفراشة الذي تحدّث عنه "جوانج زي"، أنا سعيدة أنّني أعيش لا يقيني في فرنسا، أسمع صوت أمي وأبي عشرات المرّات في النهار في بيتي في فرنسا. إنّ أزيز باب بيت الجيران، ينقلني إلى صوت باب بيتنا الحديدي الكبير، الذي كان يصدر الرنين ذاته، كلّما دخل أحد أخوتي البيت. إنّ صوت محرّك سيارة جاري هنا في فرنسا، تجعلني أخلط بين فضائيَ المحببين في سوريا وفي حلب.
مها حسن: الكتابة عن مكان من مكان آخر، هي كتابة موجعة، لكنّه ذلك النوع الممتع من الألم
أنا مسكونة بهذه الصور والروائح والحكايات والشخوص. أعيش جسديًا في فرنسا، فقط لاستثمار معملي الذي أستورد مواده الخام من سوريا. الكتابة عن مكان من مكان آخر، هي كتابة موجعة، لكنّه ذلك النوع الممتع من الألم. لا أتحدّث عن الأمراض العاطفية، بل عن الشحنة الانفعالية التي تُثري كتابتي، كما أظنّ، حيث ليس لكتابتي مسار واحد. أي أنّني لا أكتب ضمن خط سير واضح يتمثّل في ذهاب وإياب، أو ضمن ثنائيتين ثابتتين. إنّ كتابتي متفرّعة، متشعّبة، تدور في عدّة محاور، وعلى طريقة الفراشة، تحاول تجميع المشاهد والأحداث من عدة زوايا ووجهات نظر.
اقرأ/ي أيضًا: حوار عن الجنس والموت والكتابة مع تشاك بولانيك مؤلف "Fight Club"
- من خلال إقامتك الطويلة هذه، هل تكوّن عندك انطباعًا عن الكيفية التي يتعامل معها القارئ الأوربي، والفرنسي تحديدًا، مع الأعمال الأدبية العربية؟ كيف ينظر الفرنسيون إلى الأدب العربيّ بشكلٍ عام؟
أخشى دائمًا من الرد على هذا النوع من الأسئلة، مخافة الوقوع في فخ التعميم، الفخ ذاته الذي يقع فيه أغلب القرّاء الأجانب للأدب العربيّ، ولكن، وبعيدًا عن التعميم، يمكنني القول إنّ أغلب مؤشّرات توجّه واختيار الكتب العربية بالنسبة للقارئ الفرنسي، تتجه صوب القضايا المُلتهبة. أي إنّ القارئ الفرنسيّ عامّة، ولا أتحدّث عن المختصّين بالأدب والأكاديميين، يأتي إلى القراءة من باب التعرّف على المجتمع العربيّ ومشاكله، وليس من قبيل تذوق الأدب.
أنا أعيش ضمن وسط فرنسي، ولدي أصدقاء من النخب السياسية والثقافية، وهم يعرفون الكتّاب العرب الذين راجت أسماؤهم لارتباطها بأوضاع سياسية في بلادهم، أو لقضايا تتعلق بحقوق النساء أو الأقليات. ولكنّ الروائيين الذين كتبوا أدبًا محضًا، والمشهورين في بلادنا العربية، ليسوا معروفين كثيرًا في فرنسا، عدا عمّن يكتب بالفرنسية، كما كمال داوود أو ياسمينه خضرا أو أمين معلوف.
وأنا شخصيًا، أرى أنّ هناك كتّابًا وكاتبات عربًا مهمّين، وتجاوزوا إبداعيًا أسماء بعض الكتّاب الفرنسيين الذين يحصدون جوائز مهمّة، ولكن كتّابنا، رغم ترجماتهم، لم يحصلوا على تحقيق أرقام مبيعات في اللغة الفرنسية، والضجيج الذي نسمعه عن الترجمات والجوائز للكتب العربية المترجمة، يحدث في نطاق ضيّق، ولا يحظى باهتمام المثقّف الفرنسيّ العادي، أو القارئ الفرنسي غير المختص بالنقد والأدب.
- يتعامل الكتّاب والروائيون عادةً مع شخصياتهم على أنّها بشر من لحمٍ ودم، وثمّة من يكوّن علاقة صداقة معها، هل سبق وأن تعلّقتِ بإحدى شخصياتك؟ أو تركت إحداها ندبةً أثرًا فيكِ بعد انتهائك من كتابتها؟ أو قتلكِ لها داخل الحكاية؟
سأجيب عن هذا السؤال بطريقة أخرى، وسأتحدّث عن انفصال شخصيات رواياتي عنّي، ليصنعنّ عوالم وصداقات خاصة بهنّ. لقد أدخلتني "صوفي بيران" بطلة رواية "حبل سرّي"، في صداقة مع شخص، قرأ الرواية، وراح يبحث عن تلك الفتاة المدعوة بصوفي أو حنيفة. وكان يخلط غالبًا، حين يتحدّث معي، بيني وبين تلك المرأة. وكان يحمل احترامًا لي ومودة، هما في العمق، لصوفي وليس لي. لقد تلقّيت بعض الملاحظات النقدية، والنمائم، عبر الدمج بين سيرة بطلتي وسيرتي الشخصية، من عدة مصادر. كنت آخذ الأمر على سبيل الاهتمام والتأمل: إلى أي حد قد يقع الآخر في شرك الشخصية الروائية، ويحاول أن يجعل لها حياة حقيقية، تحلّ محل الكاتب نفسه.
لقد حاولت في عدّة مناسبات، ومنها أكاديميًّا، التأكيد أنّني لا أكتب سيرتي الشخصية في رواياتي. وحين أفعل، لن أستخدم أسماء بطلات وهميات. كما أنّني، ووفق حياتي المزدوجة التي تخلط الكتابة بالحياة، حوّلت أمي، وهي امرأة من لحم ودم، إلى بطلة رواية. وصار المقرّبون من القرّاء والأصدقاء، يعرفون أمي، لا كما هي في الواقع، بل باعتبارها حالة روائية.
مها حسن: هناك منعطفان قسريان وقعا في مسيرتي الكتابية، وأثّرا على مواضيعي واختياراتي، وهما المنفى أولًا، ثمّ الحرب
لدي مشروع كتاب، سأترك فيه أبطالي يتحدّثون عن حياتهم معي، بوصفهم كائنات حقيقية، استعملوني للظهور إلى الحياة. سأعترف بسرّ يعرفه أغلب الكتاب، وهو أنّنا إذا لم نقع في حب شخصياتنا، لا نستطيع الدخول إلى أعماقهم. هذا ما يحدث معي على الأقل. أتعاطف مع أبطالي وبطلاتي، وأبكي لآلامهم وانفصالهم العاطفي وإحباطاتهم. يحدث لي أن أقرأ فصلًا من رواية منشورة، فأنسى أنّني مخترعة هؤلاء الشخوص، وأتصرّف نحوهم كأنّهم أحياء من لحم ودم، وهذا فعلًا موضوع يحتاج إلى الكثير من الكتابة عن. فأنا مهووسة بهذه النقطة، إلى حدّ أنّني مؤمنة بأنّ هؤلاء الأشخاص موجودون فعلًا، يعيشون في أقبيتنا السرية، وينتظرون كاتبًا ما، أو كاتبة، من أجل إطلاقهم إلى الحياة. أنا مغرمة بأغلب شخوصي الرجال، وصديقة وفية لأغلب النساء في رواياتي. إنّ "أدهم بن ورقة" بطل روايتي "اللامتناهي" هو أنا بصيغتي المذكرة. وكذلك "كريم الحاوي" في رواية "الخيبة"، يحمل بعض أنواتي المذكّرة، أمّا (شريف) في "حيّ الدهشة" يشبه كثيرًا صورة فارس أحلامي المشكّلة من المراهقة التي تأسَّست في حارة شعبية وتأثّرت بالسينما العربية.
اقرأ/ي أيضًا: ماناش باتاشارجي: على القصيدة أن تنهي غفلتنا
- منذ روايتك الأولى "اللامتناهي – سيرة الآخر" (1995) وصولًا إلى روايتك الأخيرة "حي الدهشة" (2018) ما المراحل التي مرّت بها تجربتك الروائية؟ ما الذي تغيّر فيها، وما الذي ظلّ ثابتًا؟ وهل تغيّرت نظرتك إلى الكتابة الآن عن تلك التي كانت في بداية مشوارك الأدبيّ؟
نحن نتحدّث عن قرابة ربع قرن من الكتابة، يبدو هذا الزمن مرعبًا بالنسبة لي، كل هذه السنوات وأنا أكتب! ثمّ أجد نفسي عاجزة عن تقييم تجربتي. فأنا لستُ راضية عن كلّ ما كتبتُه.
هناك منعطفان قسريان وقعا في مسيرتي الكتابية، وأثّرا على مواضيعي واختياراتي، وهما المنفى أولًا، ثمّ الحرب. هذان الحدثان الاستثنائيان، اللذان فصل بينهما قرابة سبع سنوات، أدخلا كتابتي في مختبرات جديدة بالنسبة لي. لقد أضاف لي المنفى، وأثرى تجربتي، ومنحني الحرية، فنشرت أولى رواياتي التي كتبتها في فرنسا "حبل سري" التي أطلقت لقلمي العنان ليسرح في مساحات واسعة، بعيدًا عن الرقابة، وكانت هذه الرواية، بمثابة بداية الخيط الذي قدّمني للقارئ العربي، حيث وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر". ولكنّ الحرب تسرّبت لاحقًا إلى كتابتي، وشوّشتني. هناك الكثير من السجالات والانتقادات، حول شرعية الكتابة في زمن الحرب، ثم هناك مساءلات داخلية يطرحها الكاتب على نفسه، حول أهمية المحافظة على أناقته الإبداعية، وترك مسافة آمنة بينه وبين الحدث، ليسمح لكتابته أن تنضج أكثر. بطبيعتي، أنا كائن مغامر في الكتابة من ناحية، ولدي هشاشة أمام ألم الآخر من ناحية أخرى. حتى اليوم، لستُ متأكدة إن كانت استجابتي النفسية والأخلاقية، التي نحّت أسبابي الإبداعية، للكتابة تحت ظل الاحتراق الجمعي للشعب السوري، تصرفًا سليمًا فيما يخص مشروعي الشخصي في الرواية.
إن رواية "عمت صباحًا أيتها الحرب" مثلًا، هي عمل خارج هواجسي الفنية حين كنت أعيش في سوريا، ثمّ في فترة المنفى، ولكنّ لهذه الرواية خصوصيتها الإبداعية أيضًا لجهة التنقّل بين الواقع والفانتازيا، وتعدّد أصوات الساردين، وإيهام القارئ، بل وإيهامي، بوهمية الشخوص الذين جئت بهم كما هم، طازجين من الحرب، محمّلين بروائح الدخان والبارود والدم، وجعلتهم يخرجون من المقابر، ليسردوا حكايات ما قبل الموت. كلّ هذا يُربكني، ويمحو الفواصل الداخلية في يومياتي، بين الواقع والحلم، وبين الوطن والمنفى، وبين ذاتي، الكاتبة والشاهدة. أظن أنني سأحتاج لوقت طويل لتقييم كتابتي، بعد أنّ تنتهي هذه الحرب، التي لا تبدو لها نهاية.
- نقديًا، على ماذا تعوِّلين أكثر: آراء النقّاد أم القرّاء العاديين؟ ومن منهم يترك أثرًا أكبر في تجربتك الإبداعية عادةً؟
هناك شريحة ثالثة لم يرد ذكرها في السؤال، هي التي تهمّني. لنخرج من ثنائيات الأدب النخبوي والأدب الشعبي أو الجماهيري. أعتقد أنّ وضع القارئ ضمن أحد هذين التصنيفين، هو قتل لقارئ جديد مختلف وذكي، وشريك للكاتب. إن الشريحة التي تؤثر بي فعلًا، هي أولًا شريحة الأصدقاء المثقّفين الذين أثق بهم. لدي أصدقاء أهتم بآرائهم بعد النشر. لست معتادة على مشاركة مخطوطاتي مع أي كائن، إلا المدقّق اللغوي والناشر، ثم أسمع للأصدقاء، دون أن أخضع لآرائهم وانتقاداتهم، لكنّني أفكر بها، وأعتقد أنّني أتطور من خلالها.
مها حسن: في صفحات خاصة بالقراءة مثل "Goodreads" تجد قراءات خالية من الرحمة ومن الحرج
القسم الثاني من الشريحة التي أعوّل عليها، هي القارئ الخصم المتربّص من بعيد، حيث أتاحت شبكات الإنترنت لكثير من المتذوقين والهامشيين في المشهد الثقافي، إمكانية الكتابة، هؤلاء أتصادم معهم، وأغضب منهم، وأضحك منهم، وأهتم بهم. قرّاء المدونات، والصفحات الخاصة بالقراءة مثلًا "Goodreads" وغيرها. هنا توجد قراءات خالية من الرحمة ومن الحرج. أشخاص ربّما لا يخطر في بالهم وهم يكتبون عن انطباعاتهم، أنّ الكاتب سيقرأ آراءهم. هؤلاء يجذبونني كثيرًا، لأنّهم يجهلون عنواني أو مكان تواجدي، ولا يعنيهم إقامة صداقة شخصية معي. هذه الآراء الصارمة، المخلصة للذات القارئة فقط، أعوّل عليها، وتستّفزني بطريقة إيجابية.
اقرأ/ي أيضًا: كارمن ماريا ماتشادو: يزعجني كتّاب يتهيبون الحديث عن اللذة
- أخيرًا، ما هو جديدك؟
هناك الكثير من المشاريع، حيث أكتب يوميًا، لكنّني لا أعرف أي كتاب سيأخذ طريقه إلى النشر قبل غيره.
اقرأ/ي أيضًا: