أزمة سلاسل التوريد العالمية سابقة على الحرب الروسية في أوكرانيا، وكذا فإن التراجع في معاملات العولمة من تجارة دولية وحركة رؤوس الأموال يمكن رصدها من قبل تفشي وباء الكورونا. وصلت العولمة إلي أقصى تمددها في العام 2007، قبل أن تشهد انحسارًا بطيئًا بفعل الأزمة العالمية في العام اللاحق. لم يتعاف الاقتصاد المعولم منذ ذلك الوقت بشكل كامل، إلا أن ذلك لم يكن العامل الأهم. فالسياسي كان ما وضع مكابح على الآمال التي بلا حدود لأيديولوجيا العولمة.
من الواضح أن عولمة ما قبل أزمة 2007 ما تزال باقية، وإن كانت تتأهب لتعديلات ومراجعات على مستويات عدة وبواسطة لاعبين مختلفين
البريكسيت البريطاني كان واحدًا من الإشارات الأولى، ومن ثم انتخاب دونالد ترامب وما لحق بتوليه السلطة من سياسات حمائية واشتعال حرب تجارية مع الصين. من جانبها كانت بكين قد بدأت بالفعل بناء نسختها الخاصة من العولمة والمتمحورة حول اقتصادها، ممثلة بأكثر الصور وضوحًا في المشاريع الضخمة لمبادرة "الحزام والطريق". وهي المبادرة التي بدت كتعديل أيدولوجي على العولمة القائمة، فكأن مصممي الحزام والطريق يرون في اتساع مجال الاقتصاد نتيجة لتمدد الجغرافيا المتصلة أو العكس، أي أن الواقع الجغرافي يمكن هندسة ارتباطاته عبر الاقتصاد.
جاء وباء كورونا كصدمة متعددة الأبعاد، فدور عولمة حركة السفر وتكثيفها في انتشار المرض على مستوى كوكبي بسرعة مذهلة كان سببًا في مراجعة التفكير في التوازن المفترض بين مزايا العولمة ومخاطرها. أما الاضطراب في سلاسل التوريد وبالأخص النقص الحاد في معدات الحماية الطبية فقاد إلي صدامات فورية بين الدول الغربية، كان أكثرها درامية عمليات قرصنة استهدفت شحنات جوية لأغطية الوجه والقفازات الطبية. ثم انطلق تفكير جدي في تأمين المنتجات "الاستراتيجية" عبر الاكتفاء الذاتي وبشكل مركزي، بحيث يتم تقديم الأولويات الوطنية على حسابات الربحية المتمحورة حول منطق الميزة النسبية لكل بلد في السوق العالمي.
وفيما يخص إنتاج اللقاحات وتوزيعها، فإن الخلافات العلنية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا حول توريدات لقاح آسترا زينيكا، والتشكيكات المتبادلة التي طالت كفاءته هو واللقاحات الصينية والروسية، بالإضافة إلى نقص التوريدات إلي دول الجنوب زعزعت بشكل قوي ادعاءات "تشاركية" المنفعة التي تعد العولمة بها الجميع، وبدا وكأن قواعد الملكية الفكرية التي أصرت عليها شركات الأدوية الكبرى وقفت كعائق أمام وصول اللقاحات إلى أكثر الدول حاجة وفقرًا.
وبعد مرور مئة يوم على الغزو الروسي لأوكرانيا، تتضح التبعات العنيفة على الأسواق. فمن ناحية سببت سلسلة العقوبات الغربية على موسكو والتي طالت كافة صور التبادل بما فيها الثقافي والرياضي حالة من الصدمة. فتجميد الأرصدة الروسية على سبيل المثال وإخراج البنوك الروسية من نظام "سويفت" روع الصينيين الذين لم يتصوروا إقدام الغرب على خطوات بهذه الحدة مع دولة بوزن روسيا، وهو ما سيدفع بكين على الأغلب لتسريع عملية هندسة عولمتها البديلة أو نسخ موازية من العولمة القائمة. المذهل كان الآثار العكسية للعقوبات والتي فاقت أهدافها المتعمدة. ففي الوقت الذي تأثر فيه الاقتصاد الروسي بشدة، ويتوقع انكماشه بمعدلات قد تتراوح بين 8 و12 بالمئة هذا العام، فإن ارتفاع أسعار البترول والغاز نتيجة العقوبات ساعد موسكو على تحصيل مداخيل إضافية من فرق السعر حتى بعد بيعه في صفقات مخفضة. والأمر نفسه طال أسعار الحبوب والزيوت، فبسيطرة موسكو على حركة شحنات القمح المصدرة من أوكرانيا، غدت متحكمة في أكثر من ربع التجارة العالمية للقمح وأكثر من هذه النسبة فيما يتعلق بزيوت الذرة، وحققت مداخيل إضافية بسبب فارق السعر.
في الوقت ذاته، فإن تضخم الأسعار تدفع ثمنه الدول المستوردة للقمح والزيوت، وبالأخص في الشرق الأوسط وأفريقيا. وفي ذلك السياق، تتصاعد التحذيرات من نقص غذائي حاد وربما مجاعات في دول الجنوب، وتعيد دولة مثل مصر- وهي المستورد الأكبر للقمح في العالم- النظر في سياساتها الزراعية، وبشكل متعجل تأخذ عددًا من القرارات التي لا تبدو فعالة لمحاولة زيادة إنتاجها المحلي من القمح كمحصول استراتيجي، بدلًا من سياساتها المتمحورة حول الزراعة التصديرية للفواكه والخضروات.
تتصاعد التحذيرات من نقص غذائي حاد وربما مجاعات في دول الجنوب، وتعيد دولة مثل مصر- وهي المستورد الأكبر للقمح في العالم- النظر في سياساتها الزراعية
وبسبب هذا كله، شغلت أسئلة العولمة ومستقبلها المجتمعين في مؤتمر دافوس نهاية شهر أيار/مايو الماضي. وعلى الرغم من المبالغات المبشرة بموت العولمة والتي أطلقها بعض المعلقين المنتمين إلي أقصى اليسار وأقصى اليمين، فإنه من الواضح أن عولمة ما قبل أزمة 2007 ما تزال باقية، وإن كانت تتأهب لتعديلات ومراجعات على مستويات عدة وبواسطة لاعبين مختلفين لهم دوافع وأهداف متناقضة. يمكن توقع المزيد من عمليات التوطين لمراكز إنتاج السلع الاستراتيجية داخل البلد الواحد أو التكتل الاقتصادي الواحد، وربط مواقع حلقات سلاسل الإنتاج بالعلاقات السياسية بين الدول ومدى قربها أو تباعدها، مما قد يترجم إلي تخفيف الاعتماد المتبادل بين الصين والغرب على سبيل المثال، وتوجه عدد من الدول الأصغر حجمًا إلي الاعتماد على التحالفات والأسواق الإقليمية، وعلى المدى المتوسط إنتاج عولمات متوازية أو عولمة واحد ذات مراكز ثقل متعددة ومتفاوتة الأوزان.