1
قال لي أحدُ أصدقائي الغزيين معقّبًا على الهدنة الإنسانية التي بدأت في غزة ومن المتوقع سريانها لعدة أيام: العالَم بحاجة إلى إعادة مَفهمة لمصطلحاته.
وأضاف: إنّ العالَم يتفاعل مع الهدنة الإنسانية في غزة بمنطق من يأخذ استراحة من الفرجة، فالهدنة في منطق العالَم هي الفترة المؤقتة التي يتوقّف فيها عداد الموت عن العدّ قليلًا، وتسكت فيها أصوات الطائرات عن القصف، وتصل فيها المساعدات الإنسانية إلى الناس، إنّها في منطق العالَم فَترة طارئة وغير محسوبة تُقطعُ من وقتِ الحرب الأصلي، فيأخذ العالم خلالها نفسًا عميقًا، ويتنفّس خلالها الصعداء من مشاهِد الموت اليومي والمتكرّر في غزة.
استطردَ وقال: هل تَعلمين كيف ننظر نحنُ الغزيين إلى هذه الهدنة؛ إنّها بالنسبة لنا فترة نستريحُ فيها من كلّ الموت القَبلي الذي جاءنا ونستعدّ فيها لكلّ الموت البَعدي الذي سيجيء، إنّ الهدنة في منطقنا ليست أكثر من استراحة بين موتين!
شعور الناجي الوحيد من العائلة في غزة يُشبه بالضبط شعور الناجي الوحيد بعد نهاية العالَم
2
شاهدتُ طِفلًا بُترتْ قدمه جراء القصف الإسرائيلي على غزة، يحكي بألم حول الحادثة التي آلّمت به وحرمته من حلمه في أن يُصبح لاعب كرة قدَم، واستذكرتُ وأنا أشاهده فيلم أنيميشن كنتُ قد رأيته بعنوان: "I Lost My Body"، ويروي قصة سريالية عن فتىً يفقد يده أثناء حادث مؤلم، حيثُ تُحفظ في مكان ما ثمّ تستفيق فجأة وتقرّر العودة إلى صاحبها، وفي رحلة عودتها يصوّر الفيلم تفاصيل ذكريات تلك اليدّ مع صاحبها منذ ولادته وحتى اللحظة التي فقدها فيها.
وفعلًا، يَشعر مُشاهد الفيلم وهو يشاهده بكتلة شعورية هائلة تنبثق من فكرة الذكرى والمساحة الذاكرية، ويخطر على باله وهو يفكّر في جسده الإنساني بكمّ المساحات الذاكرية التي يختزنها كلّ عضو من أعضائه بل كلّ مفصل وعظمة وخلية فيه.
كنتُ أستذكر تفاصيل الفيلم وأفكّر في قدم ذلك الطفل باعتبارها عالَم ذاكري مكثّف يختزنُ في طياته ملايين الذكريات التي مرّ بها الطفل وعاشها، وقلتُ في نفسي: كم ذاكرة يفقد الإنسان عندما يفقد عضوًا؟
3
هناك العديد من العائلات الغزية التي شُطبت أسماؤها بالكامل من السجل المدني، باستثناء ناجٍ وحيد، امتنع الموت عنه بمحضَ الصدفة، وتركه ليبقى حيًا، وليعيشَ وحده في ما تبقى له من هذه الحياة، وأنا أفكّر في شعور الوحدة التي يشعر بها هذا الناجي الوحيد، استذكرتُ فيلمًا شاهدته بعنوان: "I Think We're Alone Now"، وهو فيلم يحمل ثيمة أفلام نهاية العالم، ويحكي قصة رجل يُعاني من حالة القزمية يستفيق يومًا على موت كافة الأشخاص في مدينته، ليبقى هو وحيدًا فيها، ويكتفي بالعيش وحيدًا؛ يقرأ، ويصطاد، ويُنطّف بيوت أهالي مدينته، ويدفن جثثها بالترتيب.
يحكي الفيلم عن هذا الرجل وعن ظنّه بأنّه الرجل الأخير على الأرض، والناجي الوحيد فيها، وبعيدًا عن بقية تفاصيل الفيلم، فإنّني أعتقد بأنّ شعور الناجي الوحيد من العائلة في غزة يُشبه بالضبط شعور الناجي الوحيد بعد نهاية العالَم، فشعور الوحدة الذي يشعر به هذا الناجي هو شعور له رجفة تُشبه رجفة يدّ آخر رجل في العالم وهو يهيلُ آخر حفنة من التراب على آخر رجل قبله.