الحرب النووية ليست قدرًا. ذلك أن هذه الحرب لا تقع لأن رئيسًا أو قائدًا قرّر أنه يريد تجريب حظه في العيش بعد نهاية العالم. فلاديمير بوتين لن يكون معجبًا بنفسه مثلما كان معجبًا بنفسه منذ شهور، إذا حصلت حرب نووية. مثل هذه الحروب ستجبره على تغيير نمط حياته الذي يحبه. وستجعله يكره نفسه أحيانًا. هذه حروب لا تندلع لمجرد أن أحدًا ما لا يحتمل الإهانة. فالإهانة التي تسببها هذه الحرب للرابح نفسه، أكبر من أن يتخيلها عقل. مع ذلك دعونا لا نستبعد الجنون عن عقول الرؤساء والقادة. بعضهم مجنون حقًا، وبعضهم يدعي الجنون.
فلاديمير بوتين لن يكون معجبًا بنفسه مثلما كان معجبًا بنفسه منذ شهور، إذا حصلت حرب نووية. مثل هذه الحروب ستجبره على تغيير نمط حياته الذي يحبه. وستجعله يكره نفسه أحيانًا
ادعاء الجنون أو الإصابة به لا يحتم وقوع الحرب أيضًا. فمثل هذه الحرب لا تشبه قرار انتحاري بتفجير نفسه وسط أعدائه. إنها حروب تحتاج إلى تضافر مؤهلات وخبرات لا تحصى عددًا، ويجدر بالجميع أن يكونوا مجانين لتحدث مثل هذه الحرب. حسنًا، لم يجن العالم بعد، أو على الأقل أصحاب القرار فيه. لكنهم بدأوا مسيرتهم نحو الجنون.
الحربان العظميان اندلعتا بعد لغو كثيف ومستمر يحيل كل المصائب التي تحف بأمة ما إلى خارج يمنع عنها الهواء والدواء والغذاء والتقدم. الإيطاليون يكرهون الفرنسيين ويتمنون إزالتهم من الوجود، والألمان يكرهون البريطانيين ويريدون إفناءهم، وأغنية الكراهية التامة كانت تصدح في كل عاصمة ومدينة طوال سنوات. وما منع اندلاع تلك الحروب قبل أوانها لم يكن أكثر من واقع أن الأمة التي تكره جيرانها لم تكن قد وصلت إلى مرحلة الشعور بأن العالم لم يعد يتسع للأمتين معًا. ولم يكن لهاتين الحربين أن تستمرا لولا أن من بدأها رأى أنه ينتصر فيها انتصارات لا خلاف على تحققها.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم ينجز هذين الشرطين بعد. من جهة أولى، لم ينتصر انتصارًا ساحقًا في حربه ضد أوكرانيا. بل يمكن القول إنه هزم في هذه الحرب حقًا. ومن جهة ثانية لم ينجز مهمته في إقناع الروس جميعًا بأن العالم الخارجي يريد تمويتهم. لقد بدأ يعزف على لحن رد مصائب الروس إلى خارج يريد فناءهم وزوالهم، لكن هذا اللحن لم تكتمل نوتاته بعد. ما زال ثمة في روسيا من يعترض على مغامراته، والحال نفسها تتردد أصداؤها في الجهة المقابلة، ذلك أن الأوروبيين مقسومون في ما بينهم حيال التعامل مع روسيا فمنهم من يصف الامة الروسية بأمة يجدر بهم إبادة أفرادها، ومنهم من يرى في حكومتها التي يرأسها بوتين سبب العلة وموطن الداء. في الجهتين المتقابلتين ثمة تردد موصوف في قطع كل حبال الصلة بين المعسكرين. لكن الطريق إلى هذا القطع بات مرئيًا ويكاد يكون سلوكه مرغوبًا. على الأقل هذا ما تؤشر إليه نتائج الانتخابات الإيطالية ومسار الفرنسية التي سبقتها. ويكاد يكون أصل الفارق بين التردد الأوروبي والجموح الروسي يتعلق بكون الأوروبيين الذين عاينوا تمريغ أنف روسيا في الوحل الأوكراني، باتوا مقتنعين أن الدخول في حروب مماثلة لن تؤدي إلى انتصارات ساحقة. وبالتالي، فإن شرط المغامرة بحرب طاحنة الأول والأساس مفقود في مخيلتهم وفي مداركهم على حد سواء. والنقطة الثانية الأهم والتي تجعل الأوروبيين أكثر ترددًا في سلوك المسلك البوتيني تتعلق بحليفهم الأقوى، أي الولايات المتحدة الأمريكية. حيث يغلب على الوعي العام الأوروبي فكرة أن اندلاع حرب شاملة وواسعة النطاق ستؤدي لا محالة إلى جعلهم مع الروس ضحيتها الأولى والأخيرة. وتاليًا فإن المراهنة البوتينية في هذا المجال تفترض أن تشديد الضغط النفطي والغازي على أوروبا سيؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى انتقال أوروبا إلى صفه ومعاداة أمريكا. وليس ثمة عاقل يستطيع أن يفترض أن هذا الهدف قابل للإنجاز. فالسلوك البوتيني يثبت كل يوم أنه يريد أن يكون محتلًا، ولن يقبل بأقل من عرش أوروبا مجتمعة ليتربع عليه، في وقت لا يملك من مقومات هذا الحلم شيئًا سوى صورته كقاطع طريق لا يتورع عن قتل نفسه في سبيل أن يلوي ذراع أصدقائه المفترضين.
لكن قراءة ما يجري وفق منطق مفهوم، لا يمنع الأحداث أن تخرج عن كل منطق أصلًا. ففي نهاية الأمر لم يكن ثمة عاقل يمكنه أن يقتنع أن روسيا التي تدعي أنها دولة كبرى كانت دولة كبرى، وأن مغامراتها غير المحسوبة في جوارها وخارج مدارها تثبت أنها فعلًا دولة كبرى. مع ذلك تصرف الرئيس الروسي بوصفه دولة أكبر من كل دول جوارها الأوروبي مجتمعة، وتعامل مع الأحداث والوقائع كما لو كان يملك أوراقًا أكثر بكثير مما كانت تحتوي يداه.