يحتفي النقاد الصحفيون بكل ما يصدر من نتاجات أدبية، مانحين بذلك، وفي مفارقة لافتة، حصانة للحرف المطبوع من أي نقد.
في صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي، فإن كل الروايات والمجموعات القصصية والأشعار تغدو هامة، وتغني المكتبة الأدبية العربية، وبالتالي لا غنى لنا عن قراءتها.. وكلمة السر وراء هذا الاحتفاء بالغ السخاء هو أن القراءات الصحفية تتبع شكلًا نقديًا يسود منذ عقود، ذلك النقد الذي يتوجه أساسًا إلى المقولة، ويقصر عنايته على تحديد الأهداف، واستنباط الرسالة في الأعمال الأدبية الصادرة، دون الالتفات إلى الأدوات والشروط الفنية، التقنيات، الأسلوب، اللغة..
تتبع القراءات الصحفية شكلًا نقديًا يتوجه إلى المقولة، دون الالتفات إلى الأدوات والشروط الفنية، التقنيات، الأسلوب، اللغة
وبما أن كل الكتاب يرمون في نتاجاتهم إلى أهداف نبيلة، ويطرحون مقولات هامة (أو على الأقل مشروعة)، ويملكون رسائل سامية من نوع ما، فهم جميعًا يتساوون أمام هذا النوع من النقد، على اختلاف مستوياتهم، وتباين صياغاتهم ووسائلهم..
اقرأ/ي أيضًا: يوسا.. هل السياسة أقرب إليه من الفن؟
ولكن ألا يملك جميع كتاب "الومضات الفيسبوكية" مثل هذه المقولات والرسائل والمغازي العظيمة؟ ألا يعرّون مظاهر الفساد والزيف والتخلف، ويناصرون قيم الحق والعدل والجمال؟ إذًا فـ"ومضاتهم" تملك الأهمية ذاتها التي تملكها قصص تشيخوف وموباسان ويوسف إدريس!
وثمة روائي ينتج روايتين أو ثلاث كل سنة، مكررًا الحبكات الساذجة، والمفارقات الفجة، والمواقف الميلودرامية المبللة بالدموع، مستعرضًا مهارته في الإنشاء الفارغ والحشو الخالي من الكثافة والدسم.. ومع ذلك، ولأنه يكتب مجاهرًا بوقوفه إلى جانب الحب ضد الكراهية، والتسامح في مواجهة التعصب، وحق المرأة في أن ترتبط بمن تحب.. فإن القراءات الصحفية أدمنت الاحتفاء بأعماله، مرددة من التقريظ ما تقوله في رواية صادرة حديثًا لماريو فارغاس يوسا، أو طبعة جديدة من إحدى روايات نجيب محفوظ. ولا تلتفت هذه القراءات المدّاحة إلى أن جوهر فلسفة الكاتب المحتفى به يلخصه مطلع أغنية لمطربة لم يحتف بها أحد: "ما تيجوا نحب بعض وما نحبش بعض ليه"!
ولا يقتصر الأمر على قراءات صحفية، بل إن مؤسسات عربية عديدة تمنح جوائزها السخية لكتاب ونتاجات وفق هذا المعيار الوحيد: الرسالة. هكذا فازت روايات لا تستوفي الحد الأدنى من الشروط الفنية، وذلك فقط لأنها تحدثت عن قضية فلسطين، أو لمّحت إلى حلم الوحدة العربية، أو تبنت خيار مقاومة الإمبريالية والاستعمار الحديث.. وبالطبع لا تخجل هذه الجوائز من الجهر بمعيارها في حيثيات إعلان الفوز، كأن تقول مثلًا: "روائي مناضل آل على نفسه الوقوف إلى جانب أمته وقضاياها العادلة".
ميلان كونديرا: "الرواية، الرواية الحقيقية، هي التي تقول ما لا يمكن لغير الرواية أن تقوله"
حسنًا ماذا لو كتب أحدنا مقالة، بأي لغة وبأي أسلوب، ونشرها في أي منبر، على أن يضمنها كل المقولات النبيلة: حرية المرأة، مناصرة الشعوب المظلومة، تكافؤ الفرص، العدالة الاجتماعية، المساواة، إدانة الامبريالية، تعرية الفساد، الانتصار للمحبة.. فهل ستكون هذه المقالة تكثيفًا لكل الأدب العظيم في العالم؟
اقرأ/ي أيضًا: يوسف إدريس.. كاتب أم رجل دولة؟
كتب ميلان كونديرا في أحد نصوصه التنظيرية: "الرواية، الرواية الحقيقية، هي التي تقول ما لا يمكن لغير الرواية أن تقوله"، ذلك أن السؤال الأهم في الأدب ليس هو "ماذا نقول" بل "كيف نقول".
اقرأ/ي أيضًا:
آريان شومان.. السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا
إيفان كليما في "حبّ وقمامة".. تقليص وجود الإنسان إلى عدمية النفايات