أدرك الفلسطينيون أن النكبة حدث مستمر. وعلى هذا الأساس، صاروا يعتبرون كل ما يجري منذ 76 عامًا فصولًا من كارثة واحدة، وكثيرًا ما رُفعت صور من حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة مع صور مماثلة من عمليات التطهير العرقي، وهي مرحلة امتدت من نهاية 1947 إلى بداية 1949، وأدت إلى تدمير حوالي 500 قرية وسلب المدن الكبرى، ضمن خطط عسكرية تقوم على التهجير.
مفارقة اليوم هي أن ضحايا التطهير العرقي قبل 76 عامًا هم آباء وأجداد ضحايا الإبادة الجماعية في غزة اليوم.
من هنا ثمة إجماع على أن حرب الإبادة الجنونية التي لم تُبق ولم تذر هي في الأساس حرب على اللاجئين. وبالتالي، فإن فكرة حق العودة هي من الأهداف التي يُراد لها أن تُباد.
لم تنته النكبة إذًا. الفلسطينيون يدركون ذلك جيدًا، لكن يبقى السؤال: هل تعلمنا من مأساتنا المستمرة كيف نواصل بناء السردية الفلسطينية، ليس لأجل معرفة الفلسطينيين بأنفسهم فقط، بل أيضًا لبناء معرفة بالقضية لدى الأجيال العربية الجديدة، بحيث تُبنى المواقف على أساس الإحاطة الفكرية والتاريخية.
رغم فيضان المعلومات والحقائق الأساسية حول فلسطين والفلسطينيين، لا يزال هناك أناس بعيدين عن أي إلمام دقيق يمكن التعبير عنه بعبارات حقوقية وسياسية واضحة وصارمة
من المؤسف أنه رغم فيضان المعلومات والحقائق الأساسية حول فلسطين والفلسطينيين، لا يزال هناك أناس (من مؤيدي القضية الفلسطينية) بعيدين عن أي إلمام دقيق يمكن التعبير عنه بعبارات حقوقية وسياسية واضحة وصارمة.
ربما يعود ذلك إلى أنظمة شاءت ذلك، أو القوى العالمية التي تصر على تكريس الجهل بالقضية، خصوصًا مع عمل دول كبرى على تكريس سردية مشوّهة من التاريخ الفلسطيني، لا سيما مع مشاريع المنظمات غير الحكومية من دول الاتحاد الأوروبي المانحة (NGOs)، وكذلك ضمن رؤى التعاون الدولي مع الولايات المتحدة، التي كانت المناهج هدفًا أساسيًا في صفقات التطبيع التي قادتها، حيث أصرت في الاتفاقيات التي رعتها بين إسرائيل وبعض الدول العربية على حذف أي شيء في المناهج التربوية يشجّع على المقاومة أو يحتفي بها، ما يعني نسفًا كاملًا للتراث الوجداني للشعب الفلسطيني.
ولأن مأساتنا أيقظت الضمير والوعي الإنساني الحر، أصبح من الصعب تقبّل أسئلة سطحية عن الحقوق الفلسطينية أو عن تاريخ قضيتنا. كما سيكون من الصعب قبول التلطي خلف مشاغل الحياة اليومية لإخفاء عدم المعرفة، لأن هناك أطفالًا ومراهقين من أمكنة ولغات بعيدة عنا كسروا كل الأُطر وبنوا معرفة كافية لتتجاوز أصواتهم الحدود.
هزّت المأساة الحالية كيان العالم الذي نعيش فيه ووضعته أمام مفترق طرق، فلم يعد مقبولًا بعد الآن هذا الدعم اللامحدود للجرائم الإسرائيلية، وكذلك الخضوع لابتزاز اللوبيات الصهيونية. كما أنها كشفت كذب المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تُصرف عليها المليارات لغسيل الأدمغة. وبيّنت أن الأنظمة في الدول الديمقراطية تتحوّل إلى دول قمعية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
نعرف أن المآسي تبدأ وتنتهي، أو أن لها بدايات ونهايات، إلا المأساة الفلسطينية التي تتجدد كل يوم بممارسات لا حصر لها، وستظل تدور في حلقة مفرغة إلى أن يدرك العالم أنه لن يكون مكانًا للعدالة والحرية دون أن ينال الفلسطينيون حقهم.