في مثل هذا الأسبوع قبل 25 عامًا، انتهى وجود الاتحاد السوفياتي وانتهت معه الحرب الباردة. خسرت موسكو، وفازت واشنطن. هكذا بدأت جوليا يوف، الكاتبة بمجلتي بوليتيكو وهاي لاين التابعة لهافنجتون بوست، مقالها في مجلة فورين بوليسي الأمريكية. قبل 25 عامًا مضت، تابعت يوف، بدا أن المفهوم الغربي للنظام – الديمقراطية، الأسواق الحرة، حقوق الإنسان- قد أثبت أنه أفضل وسيلة حكم وأكثرها استقرارًا وأخلاقية. وقد تقرر أن يحكم النمط الغربي للنظام، منذ 25 عامًا، روسيا أيضًا.
بالنسبة إلى بعض المفكرين الروس المحافظين، الذين أثر بعضهم فيما بعد على بوتين، فإن فكرة روسيا كديمقراطية كانت نوعًا من الهزيمة
اقرأ/ي أيضًا: الأمم المتحدة تصوت على محاسبة مجرمي الحرب في سوريا
مع تفتت الاتحاد السوفيتي، تاق الكثير من المثقفين في المدن إلى تغريبٍ اعتقدوا أنه سيغير تمامًا بلادهم وحياتهم، بمجرد تخلصهم من الشيوعية، هكذا اعتقدوا، أنهم سيعيشون مثل أقرانهم الأمريكيين والأوروبيين. وقد أتى التغريب. صيغ أول دستور كتب في روسيا عقب انهيار عام 1991 على الطراز الغربي بمساعدة خبراء شباب من جامعة هارفارد. أفسح عصر حكم الحزب الواحد السوفايتي المجال لنظامٍ برلماني صاخب ضم يومًا ما، أكثر من 100 حزب سياسي، من بينها حزبٌ لمحبي الجعة.
أصبح فجأة هناك صحافة بلا قيود، ذات توجهاتٍ متعارضة على الطراز الغربي. ساعد نفس هؤلاء الخبراء من جامعة هارفارد، شباب مثل جيفري ساكس، في دفع التحول المؤلم من الاقتصاد السوفياتي الموجه إلى اقتصاد السوق. غزا رجال الأعمال الغربيين البلاد لتحقيق أرباحٍ كبيرة لكنهم جلبوا معهم أيضًا أساليبهم الجديدة التي بدت متفوقة للقيام بالأعمال: مجالس إدارات، حوكمة الشركات، الأسهم والسندات. أصبح الدولار عملة التداول المفضلة الموثوق بها. غمرت المنتجات الغربية السوق الروسي: كوكاكولا، هوليود، الهواتف النقالة.
في نفس الوقت، تحولت روسيا سريعًا من كونها قوة عظمى نووية إلى بحيرة مياه راكدة، ثقافيًا وسياسيًا. اصطفت بلدان حلف وارسو والجمهوريات السوفيتية السابقة على أبواب حلف الناتو، وأصبح ينظر إلى روسيا على أنها أرض السكارى والعرائس اللاتي يتم طلبهن بالبريد، مصدرًا للسخرية وليس الخوف. التحول من أحد أعظم إمبراطوريات العالم إلى أن يتم اعتبارها "فولتا العليا ذات الصواريخ" أغضب النخب الروسية، أو أن يتم السخرية منها من قِبل سيرجي برِن، المؤسس المشارك لجوجل وأحد المهاجرين العديدين الذين صنعوا ثرواتهم في أماكن أخرى، على أنها "نيجيريا ذات الثلج"، أو، كما وصفها أحد العاملين الجمهوريين بمجلس الشيوخ خلال محادثة، "محطة بنزين الصين". حتى بالنسبة إلى أكثر الروس انتقادًا للكرملين، ربما كان الإذلال مهينًا.
بالنسبة إلى بعض المفكرين الروس المحافظين، الذين أثر بعضهم فيما بعد على فلاديمير بوتين في فترته الرئاسية الثالثة، فإن فكرة روسيا كديمقراطية في حد ذاتها كانت نوعًا من الهزيمة، كانت فرضًا لنظامٍ أجنبي للحكم لا يناسب التقاليد الروسية والتأكيد التاريخي على العظمة والوحدة وخضوع الفرد لدولةٍ مركزية قوية. كانوا ساخطين على التغريب، خاصةً في تجسداته الجيوسياسية، مثل قصف حلف الناتو ليوغوسلافيا عام 1999 رغم اعتراضات موسكو.
اقرأ/ي أيضًا: إعلان موسكو..عزل الأزمة السورية خارجيًا
ثم، في العقد الأول من الألفية الجديدة، دعم برنامج جورج بوش الإبن لتغيير الأنظمة والترويج للديمقراطية والانتفاضات الديمقراطية في دول الاتحاد السوفيتي السابق مثل جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان. أرعب هذا بوتين، والذي خشى من أن واشنطن سوف تدعم شيءًا مماثلًا في موسكو. رد بوتين بتهميش المعارضة، وخلق حركة شبابية متشددة مؤيدة للحكومة، وإخصاء ما تبقى من الصحافة المستقلة في الداخل. ثم أتت الإطاحة بصدام حسين وحسني مبارك ومعمر القذافي و، ما بدا وشيكًا، بشار الأسد، كل ذلك باسم الديمقراطية الغربية. وحدث ذلك على خلفية احتجاجات تحت حوائط الكرملين لموسكوفيين مدنيين متغربين من ذوي الياقات البيضاء يطالبون بنظامٍ أكثر شفافية وقابلية للمساءلة. وقف هؤلاء في برودة شتاء كانون الأول/ ديسمبر 2011 وطالبوا صراحةً بحكومةٍ على الطراز الأوروبي.
دعم بوش الإبن الانتفاضات الديمقراطية في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وأرعب هذا بوتين، الذي خشى من أن واشنطن سوف تفعل ذلك في موسكو
لكن في كانون الأول/ديسمبر 2016، وبعد 25 عامًا من خسارة روسيا للحرب الباردة وفوز الغرب بها، فاز بوتين قطعًا بنهايتها الممتدة. استطاع بوتين بنجاح إعادة التفاوض على شروط انتقال روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي الطويل والمترنح وإنهائه عبر عكس شروط الهزيمة اللادموية للاتحاد السوفياتي. كانت نهاية 25 عامًا من التفوق الأخلاقي الغربي هي الكشف عن أن وكالة المخابرات المركزية قد توصلت إلى أن جنود بوتين السيبرانيين قد حاولوا التأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح دونالد ترامب.
لكن الأمر لم يقتصر على ترامب فقط، بل أنه لم يكن متعلقًا فقط بزرع الفوضى. لقد كانت عملية هدفها هو وجودها في حد ذاته، إثبات أن روسيا قوية الآن بما يكفي للتأثير على أهم انتخابات في أهم بلدٍ في العالم. وعندما تقوم برهانٍ مثل هذا، وبنجاحٍ إلى حد أن تساعد في انتخابات رئيسٍ أمريكيٍ جديد اعتبر نفسه بالفعل شريك بوتين الأصغر، فما الذي يتبقى من التفوق الأخلاقي الغربي؟ أي نوع من الأنظمة أفضل الآن؟.
وهكذا، بعد عقودٍ من مشاهدة الغرب يفرض نموذجه السياسي والاقتصادي على روسيا، لم يقم بوتين فقط بوقف المد لكنه عكس اتجاهه. لأعوام، استخدم بوتين وسائل إعلام يمولها الكرملين مثل روسيا اليوم لخوض حربٍ في أوروبا على فكرة الحقيقة القابلة للمعرفة والتحقق. موّل بوتين أحزاب اليمين واليسار المتطرف لتعيث فسادًا في المجال السياسي الأوروبي الرزين في المعتاد، بل إنه متهمٌ باستخدام تدفق اللاجئين السوريين كسلاحٍ لزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي. الآن، تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي بعد أن تحدث زمار البريكسيت نايجل فاراج عن إعجابه الدائم ببوتين، وتستعد فرنسا لاختيار رئيسٍ موالٍ للروس، ويتعلق مصير المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الواقعة تحت هجوم الجيوش السيبرانية الروسية، بخيطٍ رفيع.
لكن الانتصار الحقيقي هنا هو إنزال هذه الجيوش على الشواطئ الأمريكية. في 2016، كان ذلك بالضبط هو ما قام به بوتين، عبر التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. بعيدًا عن الاختراقات (والتي، قد يجادل بوتين أنها لا تختلف عما فعلته الولايات المتحدة خلال وبعد الحرب الباردة بدعمها "الثورات الملونة" وتغيير الأنظمة)، الشيء الذي جعله انتصارًا هو فرض نموذجٍ روسي على الغرب، وهو انقلابٌ مؤثر وملموسٌ بشدة للوضع الذي ظل قائمًا منذ عام 1991. أضحت انتخاباتٌ رئاسية أمريكية مليئة بنظريات المؤامرة روسية الطراز والأخبار الزائفة واللامعقولة والتدفق الاستراتيجي المستمر للكومبرومات (المعلومات المضللة). لقد كانت، بعبارةٍ أخرى، انتخاباتٍ روسيةٍ تمامًا.
في تلك الأثناء، كان بوتين يتواصل مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، مثل إسرائيل والسعودية، والآن اليابان، محاولًا إقناعهم بأنه في النظام العالمي الجديد، لم يعد هناك قوةٌ عظمى واحدة. هناك الآن قوة عظمى مترددة في القيام بدورها، وأخرى قديمة عرجاء لا تخشى أن تكون حاسمة مهما كان الثمن باهظًا، لأنه في مثل هذا الأسبوع قبل 25 عامًا، خسر الاتحاد السوفيتي الحرب الباردة. وبعد 25 عامًا، أعادت روسيا التفاوض على شروط الاستسلام.
اقرأ/ي أيضًا: