المقال الآتي قراءة نقدية حول رواية هاروكي موراكامي "قتل قائد الفرسان"، كتبها راندي روزنتال، الكاتب والمحرر والباحث في الدين والأدب بجامعة هارفارد، في مجلة "The Los Angeles Review of Books"، وها نحن ننقلها مترجمة إلى العربية.
تشبه قراءة رواية كبيرة لهاروكي موراكامي حفرَ نفق تحت الأرض. في البداية، تكون الأمور مألوفة. تحفر بين الصخور المعتادة التي تراها يوميًّا. لكنك تصل بعدها إلى هذه الكهوف التحت أرضية الهائلة التي تزينها الرواسب والتشكيلات الكلسية الجميلة. تتصل الكهوف ببعضها البعض عبر ممرات ضيقة، وفي كل مرة تدخل فيها نفقًا ضيقًا آخر تخرج منه إلى تجويف كهفي أكبر حجمًا وعمقًا وحميمية. لا يبدو وجود مثل هذه الأشياء المعجزة ممكنًا، لكنها توجد بالفعل. وكما كتب ماكسيموس الشهيد في كتاب الفيلوكاليا: "الكهف محراب سري من الحكمة داخل العقل نفسه، كل من يدخله سيتلقى معرفة روحية باطنية تفوق كل تصوراته".
الكهف محراب سريّ من الحكمة داخل العقل نفسه، كل من يدخله سيتلقى معرفة روحية باطنية تفوق كل تصوراته
في رواية هاروكي موراكامي "قتل قائد الفرسان - Killing Commendatore" (التي ترجمها إلى الإنجليزية فيليب جابرييل وتيد جوسين) وهي تحفة أدبية تقارع في جودتها روايتي "يوميات طائر الزنبرك - The Wind-Up Bird Chronicle" لعام (1994-1995) ورواية "1Q84" لعام (2009-2010)، تجتاز الشخصيات هذه السراديب المخفية المهيبة.
اقرأ/ي أيضًا: من أين أبدأ مع هاروكي موراكامي؟
في بداية القصة، يقول بطل رواية موراكامي، وهو فنان بورتريه لم يرد اسمه، إنه يريد بذل قصارى جهده "ليصل إلى سرد منطقي ومنظم" لما حدث له خلال تسعة أشهر من "الفوضى والارتباك غير المفهومين" الذين مر بهما أثناء عيشه في منزل في الجبال. بعد أن أخبرته زوجته الذي دام زواجه منها 6 سنوات، أنها لن تستطيع الاستمرار في العيش معه، انطلق في رحلة نحو الشمال واستقر في منزل والد صديقه، وهو رسام مشهور يدعى توموهيكو أمادا، الذي يعاني الآن من الخرف.
على غرار شخصيات موراكامي الأخرى، يتخلى الفنان عن مهنته وهي رسم البورتريهات، ويخطّط لعيش حياة بسيطة ومتواضعة في ذلك المنزل المنعزل، بينما يقوم بتدريس الفن في فصل محلي مرة في الأسبوع. لاحقًا يفكر في الطريقة التي أثر بها الطلاق على حياته: يبدو الأمر كما لو أن الأمور تسير كالمعتاد، وأنك على المسار الصحيح، ثم يختفي المسار من تحت قدميك فجأة، وتجد نفسك في مواجهة الفراغ، تائهًا دون قدرة على الإحساس بالاتجاهات، ولا دليل يرشدك إلى حيث يجب أن تذهب، وكل ما تفعله هو جر قدميك جرًا إلى الأمام". وأثناء هذا السير تنفتح أمامك فرصة جديدة لم تكن لتنفتح لولا ذلك.
في هذه الحالة، يعود السحر إلى عالم الفنان. يبدأ الأمر بوصول السيد مينشيكي الغامض، شخص يتميز بالغرابة والحذر يبدو أنه يصل فجأة ليكشف عن سلسلة من الاكتشافات الغريبة، مثل عمل فني مثير للقلق ورمز آدمي مصغر. ثم يسمع الفنان جرسًا شبحيًا في إحدى الليالي. ويتبع الصوت بدافع الفضول إلى قلب الغابة ويصل إلى ضريح قديم. ويبدو رنين الجرس وكأنه آت من تحت كومة من الأحجار، كما لو أن أحدهم قد علق هناك.
هنا، يعزف موراكامي على أوتار أسطورة شعبية يابانية قديمة، خطها أودا أكيناري كاتب القرن الثامن عشر في كتابه "مصير جيلين"، والتي يبدو أنه كان مصدر الإلهام الأساسي لرواية قتل قائد الفرسان. في تلك القصة، يسمع ابن مزارع غني صوت ناقوس قادمًا من أسفل صخرة تقبع في ركن من أركان حديقتهم. وتحتها يجد تابوتًا يضم رفات راهب بوذي نحيف يصل شعره إلى ركبتيه ويقرع الناقوس بمطرقة خشبية. كان الراهب قد طالب بدفنه حيًا وفقًا لشعيرة تسمى زينجو، يقوم خلالها بقراءة مقاطع من السوترا وقرع الجرس حتى يموت. واستمر الرجل في أداء الشعيرة لمئات السنين.
لذا نرغب نحن الآن مثلنا مثل فنان البورتريه في معرفة، من أو ما الذي يقرع الجرس تحت الضريح.
اشتهر أمادا بلوحاته ذات الطابع الياباني، والتي أكسبته وسام الاستحقاق الثقافي، وهي الجائزة التي رفضها. مع ذلك فإن لوحتة الكبيرة "قتل قائد الفرسان" والتي وجدها رسام البورتريه مخفية في علية المنزل مختلفة بشكل صادم عن بقية أعماله، بطابعها الدموي العنيف. في هذه اللوحة يتبارز رجلان أحدهما شاب والآخر عجوز بسيفين قديمين ثقيلين. انغرز سيف الشاب عميقًا في صدر الرجل العجوز وأغرقت دمائه المتدفقة قميصه الأبيض. تحدق عينا الشاب الباردتين والخاليتين من الندم نحو خصمه بثبات.
الحقيقية هي رمز، والرموز هي الحقيقة. من الأفضل فهم الرموز على النحو الذي هي عليه
بعد تفكير عميق في اسم اللوحة يدرك الفنان أن أوبرا دون جيوفاني التي ألفها موزارت تبدأ بمشهد يُقتل فيه فارس وأن الرجال في اللوحة هم شخصيات من تلك الأوبرا أعيد تأطيرهم على نمط حقبة أوساكا في اليابان. يعلق الفنان اللوحة التي أرقته في مشغله ولعدة أيام يظل جالسًا أمام اللوحة محدقًا فيها وهو يستمع إلى معزوفة دون جيوفاني.
اقرأ/ي أيضًا: انسحاب هاروكي موراكامي من جائزة نوبل البديلة.. دعوني أكتب
يروي موراكامي الأمر ببساطة شديدة، لكنه في الحقيقة مذهل وغير معقول. هذا قدر من الرهبنة يفوق قدرة أكثر الرهبان التزامًا وبالتأكيد قدرة أي منا. لكن إن صدقنا مبالغات مثل هذه، فسنصدق ما سيأتي بعد ذلك. مثل قرع الجرس أسفل الضريح. أو الرجل الذي يبلغ طوله قدمين والذي يرتدي زي الفارس في اللوحة والذي يظهر في بيت الرسام. يزعم الرجل أنه لم يخرج من اللوحة وأنه ليس روحًا أو شبحًا، لكنه في الحقيقة تجسيد لفكرة، اتخذت شكل شخصية في اللوحة.
ما الذي نخلص إليه من كل هذا؟ في تحول فوقي يفسر فيه العمل الأدبي نفسه، يجعل موراكامي فارسه الصغير مرشدًا في رحلة يقود فيها القارئ بين ثنايا هذا العالم السحري المتحقق على أرض الواقع وذلك عبر إخبارنا بالطريقة التي يود منا أن نفسر بها هذا العالم قائلًا: "الحقيقية هي رمز، والرموز هي الحقيقة. من الأفضل فهم الرموز على النحو الذي هي عليه. ليس هناك منطق أو حقائق. حين يحاول الناس اتباع منهجية ما على طريق الفهم عوضًا عن الحقيقة، فهم كمن يحاول حمل ماء في غربال. أخبرك بهذا لمصلحتك، من الأفضل لك أن تتخلى عن هذا المنطق".
إذًا، هل يجب علينا أن نتخلى عن محاولة فهم ما يحدث؟ هل يجب علينا أن نقبل الأشياء التي تصادفنا في طريقنا؟ يكمل الفارس قائلًا: "ألا يمكنك فقط أن تدع اللوحة تتحدث عن نفسها؟ إذا أرادت تلك اللوحة قول شيء ما، فمن الأفضل أن نسمح لها بالحديث. دع المجازات تبقى مجازات، والرموز تبقى رموزًا، والغربال غربالًا، لأنه في جوهره رمز ومجاز. الرموز والمجازات هي أشياء لا يجب عليك تفسيرها بالكلمات. فقط عليك أن تدركها وتتقبلها".
حسنًا إذًا، ليس علينا أن نفهم ما يجري. علينا أن ندع المجازات تبقى كما هي، محض مجازات.
لكن كيف نفهم إذًا دور السيد مينشيكي؟
يقتحم ووتارو مينشكي، الرجل الخمسيني ذو الشعر الأبيض اللامع حياة الرسام طالبًا منه أن يرسمه. يخبره الرسام بأنه لم يعد يفعل ذلك، لكن مينشكي يعرض عليه مقابلًا سخيًا، وهكذا يبدأ الرجل الغريب في استخدام ثروته الهائلة في تنفيذ خططه الكبرى التي أمضى أعوامًا في التخطيط لها. إنه رجل غريب الأطوار، جنى ثروته من العمل في مجال التقنية والمعلومات، لكنه لا يعمل حاليًا. (الحروف اليابانية المستخدمة في كتابة اسمه تعني "تجنب الألوان").
يذكرنا موراكامي بأن العالم مليء بالسحر أكثر مما نعتقد. وأن عالم مسحور هو مكان رائع للعيش فيه
يعيش مينشكي في قصر على الجانب الآخر من الوادي، وفي الليل "يُرى قصره باللون الأبيض من بعيد كأنه سفينة جميلة تمخر عباب بحر المساء". حين يزور الفنان منزل السيد مينشكي لتناول العشاء في إحدى الليالي، يتم اصطحابه إلى شرفة المنزل الخلفية لمشاهدة منزله، بالغ الصغر، الواقع في الناحية الأخرى من الوادي. يكشف مينشكي عن امتلاكه لزوج من المناظير المقربة القوية. وتمامًا مثلما اشترى جاتسبي قصرًا في ويست إيج، ليتمكن من النظر إلى الضوء الأخضر في مرسى القوارب في بيت ديزي بوكانان، يحدق مينشكي -على نفس النحو- إلى الناحية الأخرى من الوادي حيث يقع بيت تعيش فيه فتاة تبلغ من العمر 13 عامًا. لا ليس لما قد يخطر ببال المرء في الوهلة الأولى، بل إنه يظن أن الفتاة ربما تكون ابنته.
اقرأ/ي أيضًا: هاروكي موراكامي.. كهف الريح
في منتصف الرواية، حين يوقع الرسام على أوراق طلاقه، يتلقى رسالة شكر من طليقته الجديدة. يضع الرسالة في الدرج ويقول: "ما إن أغلقت الدرج حتى أحسست بأن الأمور تقدمت خطوة إلى الأمام. مثلما يتحرك المقياس درجة واحدة إلى الأعلى بضغطة زر. لم يكن ذلك من صنيعي. شخص، أو شيء ما، أعد هذه المرحلة الجديدة نيابة عني وكنت أساير الأحداث فحسب". لاحقًا في مرحلة متقدمة من الكتاب، تقول زوجته شيئًا مماثلًا "هذه حياتي بالتأكيد، لكن في النهاية ربما كل ما حدث فيها قُرر مسبقًا بطريقة اعتباطية، دون تدخل مني. بعبارة أخرى، رغم أني أفترض أن لدي إرادة حرة، فإنني في الحقيقة قد لا أكون من يتخذ أياً من القرارات المصيرية في حياتي".
لا يتعلق الحديث بإيمان شخصيات الرواية بالجبرية. وهم بالتأكيد لا يتوكلون على الإله في تسيير أمورهم، أو ما شابه ذلك. بل يدفعهم موراكامي للتعبير عن حقيقة أننا، ومهما كنا عقلانيين ومستقرين، فإن حياتنا في الحقيقة خارجة عن سيطرتنا. نحن لا نختار من نحبهم، ولا من يحبنا، ولا من يوظفنا، ولا أي جانب آخر من الجوانب الأهم في حياتنا.
ونحن لا تعوزنا السيطرة فقط، بل إن هناك الكثير مما لا يمكننا أن نراه أو نعرفه أو نفهمه. والكثير مما لا يمكن تفسيره حتى أنه يبدو كمعجزة. كتب موراكامي قائلًا: "هناك قنوات تصبح من خلالها الحقيقة خيالًا، أو يدخل منها الخيال إلى عالم الواقع".
من خلال الكتابة عن المجازات والأفكار، وعبر قرع النواقيس تحت الأرض وتحريك رجال يبلغ طولهم قدمين، وعبر إفساد الرغبات اليائسة للآخرين لأبسط خططنا، ومن خلال الكثير من الأشياء الأخرى، يذكرنا موراكامي بأن العالم مليء بالسحر أكثر مما نعتقد، وأن عالمًا مسحورًا هو مكان رائع للعيش فيه.
اقرأ/ي أيضًا: