أن يداعب قلمك ملاعب كرة القدم لسنوات عديدة ليقترن اسمك بالرياضة، لا يعني أن تقع في وضعية تسلل وتترصد ضربات الجزاء ومواعيد المباريات، كذلك حال الجزائري نجم الدين سيدي عثمان، فصاحب "رحلات جزائري في ربوع أفريقيا" ولج عالم الرواية بمولوده الأول "هجرة حارس الحظيرة" (دار الأمة، 2017)، رواية تم نسجها بتفاصيل مستمدة من الواقع وشيء من خيال الكاتب الذي منح حياة أخرى لشخص غادر الحياة الحقيقة بعد طعنة خنجر إثر مباراة كرة قدم.
كنا نعتقد أن العالم ينتهي عند حدود قريتنا، كنا نظن أن من نراهم وما نعيشه هو السيناريو الأوحد للحياة
في صغرنا كنا نعتقد أن العالم ينتهي عند حدود قريتنا، كنا نظن أن من نراهم وما نعيشه هو السيناريو الأوحد للحياة، كذلك كان العياشي، حارس حظيرة سيارات، كان يرى العالم من فوق صندوق الخضار الذي يجلس عليه مرتديًا قميصًا رياضيًا لنادي شباب قسنطينة في منطقة الكدية بمدينة قسنطينة، الشاب الذي أنهى دراسته الجامعية في وطن صارت فيه الشهادات أشبه بديكور تزين به الخزائن، العياشي الشاب المثقف المجاز في التاريخ، يجد نفسه مضطرًا للعمل كمجرد حارس حظيرة يركن السيارات ويوزع ابتسامات ذابلة مقابل بعض الدنانير، لا يغادر ذلك المكان رفقة صديقيه سمير وكمال، ففي الجزائر حظائر السيارات لا تعتبر ملكًا لأحد، تغيب ليومين فتجد حارسًا جديدًا يتزعم المكان ويمتلكه. لقد جعل نجم الدين سيدي عثمان يوميات حارس للحظيرة مرآة للمشهد الجزائري العام الذي يكتنفه التذمر والغضب، لقد جسدت شخصية العياشي صورة الجزائري التي تتقاذفه البطالة ويعصفه التهميش وتسري به الأيام كما تشاء.
اقرأ/ي أيضًا: غابرييل غارسيا ماركيز.. يوم كان جزائريًا
تدور أحداث رواية "هجرة حارس الحظيرة" في مكانين مختلفين تمامًا، نصف الرواية في قسنطينة، والنصف الآخر في جنوب أفريقيا، طريق هجرة خارج العادة لشاب في مقتبل العمر، فعادة الهجرة كانت نحو الشمال في قوارب تشق البحر. وقد أقحم نجم الدين سيدي عثمان مدينة قسنطينة عميقًا في روح النص، إذ تستشعرها من شخوص الرواية، وليست مجرد إطار مكان تتوالى فيه الأحداث، قسنطينة مدينة الحكايات ومدينة الصخر التي احتضنت عبر تاريخها المسيحيين واليهود والمسلمين، مدينة العياشي بطل الرواية، التي أحبها بحلوها ومرّها، بفسادها ونقائها، مدينة يتساءل العياشي عنها لماذا مدائن العالم تلهم أهلها حب الحياة، فيما تعلم سيرتها أبناءها كيف يموتون منتحرين من فوق جسر سيدي مسيد. وظف نجم الدين سيدي عثمان قسنطينة بذكاء مبهر في أحداث الرواية، جعلها تحكي على لسان شوارعها وممراتها وجسورها حياة العياشي، كما تتداخل حياة الكاتب وحيلة بطله في مواقع عديدة فتجد نفسك أمام صور من زمن غير بعيد، حيث يأخذنا الراوي لذكرياته في الريف وكيف جاء به القدر إلى هذه المدينة الواسعة التي يسكنها هاجس "الأصلي" و"القادم"، مدينة تريد أن تفرق بين أبناءها بالتسلسل الكرونولوجي لقدومهم لها، مدينة تسكن العياشي حتى حين يذهب بعيدًا عنها.
الظاهر من الصفحات الأولى لرواية "هجرة حارس الحظيرة" هي اللغة الأنيقة جدًا التي استعملها نجم الدين سيدي عثمان، والقوة السردية التي يمتلكها وكمية الجمال الوصفي فيها، رغم أنها أول رواية له بعد سنوات طويلة قضاها في مجال الإعلام الرياضي. نسمع نجم الدين سيدي عثمان يقول "حتى التقارير التي أكتبها عن كرة القدم تحمل الكثير من الجمال، وغالبًا ما أكتب عن مواضيع لا علاقة لها بالكرة وأنا أغطي دورات كؤوس إفريقيا والعالم".
منح نجم الدين سيدي عثمان لكل تفصيل حقه فاتحًا تقريبًا جميع جدالات المشهد الجزائري، وبعض المراحل المفصلية التي عاشها أي مواطن في العشرين سنة التي مضت.
قسنطينة مدينة الحكايات ومدينة الصخر التي احتضنت عبر تاريخها المسيحيين واليهود والمسلمين
كانت التراجيديا سمة واضحة في رواية "هجرة حارس الحظيرة"، فحياة العياشي كانت أشبه بجرح يفتح عدة مرات في اليوم وبنفس الألم، صورة أمّه تستجديه ألا يرحل، وصورته وهو يخفي وثائقه كي لا يتعرف عليه أحد هروبًا من أداء الخدمة الوطنية، ومشهد فقدانه لوالدته، لتكون نقطة التحول هجرته نحو جنوب أفريقيا بطريقة غير شرعية في مغامرة مشوقة تجعلك تلتهم الرواية بحثًا عن مصير العياشي، وهو يعيش ما يشبه الفيلم السينمائي في رحلة غير محمودة العواقب متخطيا حدود دولة لأخرى في جنح الظلام.
اقرأ/ي أيضًا: ديهية لويز.. رحيل في مقتبل الشّغف
في 240 صفحة في رواية "هجرة حارس الحظيرة" نقاسم العياشي هجرته من ريفه لمدينة قسنطينة وهجرة أحلامه إلى مكان غير معلوم ثم هجرته نحو جنوب القارة السمراء ومغامراته الإنسانية هناك، ثم عودته للجزائر محملا بشحنة هائلة من الأسى والإحباط، كل هذا في قالب سردي جميل، ما جعل الكثيرين يرون في نجم الدين سيدي عثمان بذرة من بذور الرواية الجزائرية التي قد تجعل الجيل الجديد من الكتاب الجزائريين يحملون المشعل ويعيدون فعل الكتابة في الجزائر لزمنه الجميل.
اقرأ/ي أيضًا: