لم تمض ساعات قليلة على إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عدم تمديد حالة الطوارئ، حتى تعرضت مدينة نيس جنوب فرنسا، لهجوم انتحاري مضاد، لم يكن متوقعًا، إن كان من طريقة تنفيذه، أو من ناحية توقيته، في ظل التعزيزات الأمنية التي تفرضها السلطات الفرنسية.
أظهر هجوم يوم الباستيل مدى الهشاشة الطاغية على التنسيق الأمني الأوروبي
الهجوم المنفذ في مدينة نيس، جاء موسومًا هذه المرة بعملية دهس، لحظة تجمع المارة في شارع "برومناد ديزانغليه"/جادة الإنجليز، لمشاهدة إطلاق الألعاب النارية، احتفالاً بالعيد الوطني لفرنسا "يوم الباستيل" 14 تموز/يوليو من كل سنة.
اقرأ/ي أيضًا: فرنسا..تحديد هوية منفذ هجوم "يوم الباستيل"
وبحسب رئيس بلدية نيس كريستيان إستروسي، أن رجلاً كان يقود شاحنة كبيرة، أطلق النار على المجتمعين، ومن ثم قام بدهسهم، قبل أن ترديه الشرطة الفرنسية قتيلًا، مخلفًا عشرات القتلى والجرحى.
أولى التصريحات الرسمية على الهجوم، الذي يظهر أن تنفيذه في "يوم الباستيل" مقصودًا، جاءت على لسان الرئيس هولاند، الذي عاد من مدينة أفينيون إلى باريس، ليلقي خطابًا، أكد من خلاله على أن فرنسا كلها مستهدفة من "الإرهاب الإسلامي"، وسيعرض على البرلمان الأسبوع القادم مقترح تمديد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر جديدة تبدأ ممن 26 الشهر الجاري، وتعبئة عشرة آلاف جندي واستدعاء الاحتياط لنشرهم في أماكن مختلفة، وأخيرًا، كما جرت العادة تكثيف العمليات العسكرية/الطلعات الجوية وتدخلات الكوماندوز في سوريا والعراق.
المعلومات الأولية الصادرة عن مسؤولين فرنسيين، تقول إن منفذ الهجوم يحمل صبغة "فرانكوتونسية"، مواليد المساك بتونس ومتحصل على الجنسية الفرنسية، يدعى محمد بوهلال، في رصيده سجلات جنائية، يطغي عليها طابع العنف والسطو المسلح، التبريرات المحببة للأمن الأوروبي بشكل عام. الشرطة الفرنسية وجدت داخل الشاحنة أسلحة ومتفجرات لأكثر من شخص، لكهنا قالت إنها أسلحة وهمية، وهو ما يثير الشكوك حول مصداقية نوع الأسلحة، والغرض من تواجدها إذا كانت غير صالحة للاستخدام.
وسائل الإعلام العالمية، التي تابعت التطورات الميدانية بشكل مباشر، عقب تنفيذ الهجوم، قالت إن شهود عيان أكدوا تواجد آلاف الأشخاص لحظة تنفيذ الهجوم، الذي رافقه تبادل كثيف لإطلاق النار بين الشرطة الفرنسية ومنفذ الهجوم.
حتى لحظة إعداد الخبر عينه، لم تتبن أي من التنظيمات المتشددة تنفيذ العملية، وسط ترجيحات تصب في خانة تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي فقد قائده العسكري أبو عمر الشيشاني منذ يومين، وثانيًا تضارب المعلومات، من ناحية القول إن تبادلًا لإطلاق النار بين الشرطة الفرنسية ومجموعة من المسلحين كانوا خلف الشاحنة، ما يجعله حمّال لعدة رسائل مباشرة.
الهجوم كان مصاحبًا لتوقيت احتفال البلاد بعيدها الوطني، وإعلان الرئيس الفرنسي رفع حالة الطوارئ، رغم إغلاق السفارة والقنصلية الفرنسية في تركيا، على خلفية معلومات أمنية خاصة، ترجح تعرض إحداهما لاعتداء، لتكون الضربة موجهة لأحد قلاع دولة الباستيل.
اقرأ/ي أيضًا: تصاعد التصورات المعادية للمسلمين عبر أوروبا
الإعلام الفرنسي عمومًا، رأى أن الهجوم أراد النيل من القيم الفرنسية، والديمقراطية الأوروبية، وتعالت أصوات تطالب بإيقاف استقبال اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، هي حال جميع التصريحات التي ترافق هجمات التنظيم، متأثرًة بآراء اليمين الأوروبي، فما بالك باليمين، الذي وجد في "إرهابيي الشرق الأوسط"، ضالة أزلية للصعود السياسي.
على غير العادة، جاء الهجوم هذه المرة، ممهورًا بعملية مفاجئة، تنفيذًا وتوقيتًا، إلا أن ذلك لا يمنع وجود ترابط مباشر، بين مقتل أبو عمر الشيشاني، ومنفذ العملية، بعد معرفتنا أن الشارع يقصده آلاف السياح يوميًا.
فضح هجوم يوم الباستيل في نيس فداحة التناقض بين المخابرات الفرنسية الخارجية والداخلية وعدم الفاعلية في تبادل المعلومات ومعالجتها
وإذا ما صحت المعلومات التي تحدثت عن وجود مجموعة من المسلحين، يمكن التكهن أن العملية لم يكن مخططًا لها، بما أن الجميع اختفى، وبقى السائق وحيدًا. أي من الممكن أن يكون السلاح منقولًا لصالح عملية مختلفة، قبل أن يحصل تغيير مفاجئ في مسار الخطة، طبعًا إن تراجعت الشرطة الفرنسية عن حديثها المرتبط بتواجد الأسلحة.
كما أن العملية أظهرت خرقًا أمنيًا واضحًا لدى السلطات الفرنسية، التي أرادت التأكيد على نجاح خطتها بإلغاء قانون الطوارئ. للحقيقة طريقة الهجوم مؤلمة، من ناحية مزامنتها مع المعلومات المتحدثة عن انحسار قوة تنظيم الدولة. أحد مراسلي، صحيفة "نيس ماتين" الفرنسية، وصف ما حدث قائلاً "الدماء تملأ المكان وبلا شك هناك ضحايا".
والملاحظ أن العملية، في حال تبنى حدوثها تنظيم الدولة،يتضح أنه اختار الابتعاد عن طريقة الهجمات السابقة، اختار الضرب أكثر في الصميم الديمقراطي لأوروبا الحديثة، وأن موجة الاعتقالات التي تطال الخلايا المزروعة في أوروبا، لم تؤثر عليه أبدًا، إنما جعلته يتحرك بسهولة أكبر، ويثبت ملكيته للمئات من "شهداء الله الجدد".
حتى أن التنسيق الأمني لفرنسا مع دول الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، والتي أعلنت تقديمها المساعدة، ظهر هشًا مرًة ثانية، وأن الأحاديث التي تثار في أروقة الدبلوماسية العالمية، لا يمكنها التحدث عن قوة التنظيم، التي تجعل القارة الأوروبية مضطربة، ما يضعنا أمام تساؤل، إن كان الهجوم يحمل صبغة صراع استخباراتي بين الدول الغربية، وهو ما ستكشفه الكواليس التجقيقات الفرنسية خلال الأيام القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: