إذا انهارت الدولة المصرية، فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من زعزعة استقرار المنطقة، وهذا الانهيار أصبح أمرًا وشيكًا بشكل مخيف في ظل الأزمة المالية التي تواجهها البلاد وتعجز عن حلها. "إن مصر يجب أن تحصل على مساعدة أخيرة على الرغم من أن نظامها العاجز لا يستحق الإنقاذ". هذا جزء مما جاء في تقرير الإيكونوميست البريطانية منذ أيام.
عُقدت الانتخابات الرئاسية المصرية في شهر كانون الأول/ديسمبر 2023، وضَمنَ السيسي لنفسه ولاية ثالثة حتى العام 2030. هذه الانتخابات التي كان من المقرر عقدها في النصف الأول من عام 2024، لكن سعت الحكومة المصرية إلى تبكير الموعد لاعتبارات عديدة غير معلنة، من بينها الوضع المالي المتردي، إذ لن يصمد الاقتصاد المصري لوقت طويل، وبالتالي كان على السيسي تأمين ولايته الثالثة قبل الدخول في نفق مظلم من الانهيار الاقتصادي الذي يتطلب حزمة قرارات مؤلمة للمواطن المصري الذي يعاني بالفعل، وما يترتب على هذه القرارات من احتمالات لظهور احتجاجات داخلية يتبعها بطبيعة الحال قمع أمني، وهو الأمر الذي أشرنا إليه تباعًا، متنبئين وناصحين بضرورة وأولوية الإصلاح الاقتصادي وتغيير السياسات الكارثية التي اتبعها النظام على مدار العشر سنوات الماضية.
وصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى أعلى معدلاته تاريخيًا بعدما تجاوز حاجز السبعين جنيهًا، في مقابل 31 جنيهًا للسعر الرسمي، قبل أن يبدأ في الانخفاض بشكل سريع في الأيام الماضية ليصل قرابة 55 جنيهًا. حدث هذا الانخفاض بعد الأنباء التي انتشرت عن نية الدولة المصرية بيع أراض في منطقة رأس الحكمة المطلة على سواحل البحر المتوسط، الواجهة المستقبلية للسياحة المصرية، وحرص الإعلاميون المقربون من النظام على تبديل لفظة "بيع" إلى "استثمار" مع الإقرار بوجود الصفقة بين مصر والإمارات في مقابل 22 مليار دولار، إلى جانب أنباء أخرى عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لصرف قرض جديد بقيمة سبعة مليارات دولار لتخفيف الضغوط الاقتصادية الناجمة عن حرب غزة، في مقابل سعر صرف أكثر مرونة وخفض لقيمة الجنيه المصري، ما يؤشر إلى احتمالية تعويم جديد للعملة المحلية خلال الأيام المقبلة.
هذا التذبذب الملحوظ في سعر الصرف، يدفعنا للتساؤل: هل يستقر سعر الصرف قريبًا؟ وهل يستمر سعر الدولار في الانخفاض؟ وهل ينجح البنك المركزي المصري في توفير النقد الأجنبي وتقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، إلى أن يصل لسعر موحد وبالتالي يقضي على السوق الموازي؟
هل ينجح البنك المركزي المصري في توفير النقد الأجنبي وتقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، إلى أن يصل لسعر موحد وبالتالي يقضي على السوق الموازي؟
تُشير الإيكونوميست إلى أن منطقة الشرق الأوسط المشتعلة بالفعل، لا يمكنها تحمل انهيار مصر أو انفجار الوضع داخليًا، وأن البلاد بحاجة إلى تدخل عاجل بدعم مالي قصير الأجل لا يقل عن 10 مليارات دولار، ويجب على صندوق النقد والدول الغربية ودول الخليج أن تتدخل لإنقاذ الوضع. وفي الوقت نفسه يجب الضغط على النظام المصري كي يرفع الجيش سيطرته عن الاقتصاد، وهو الأمر الذي لن يمتثل له جنرالات الجيش المستفيدون من هذا الوضع، وبالتالي لن يستقر الوضع اقتصاديًا في مصر ما لم يفسح الجنرالات المجال للجميع.
فطن السيسي لهذا الأمر مبكرًا، وأدرك أهمية مصر الجيوسياسية وخطورة انهيارها على استقرار المنطقة ككل، واستخدم هذا الكارت بشكل ابتزازي أكثر من مرة من أجل الحصول على مراده من الدعم الخارجي، اقتصاديًا وسياسيًا. ففي إحدى المرات قال صراحة إن المنطقة بالكامل ستسقط إذا سقطت مصر، ومرة أخرى لمح إلى الأوروبيين بإمكانية وصول الإرهاب إليهم إذا لم يقفوا بجانب مصر ويساعدوها. وفي مناسبة ثالثة حذر الأوروبيين من الهجرة غير الشرعية إذا فقد الأفارقة الأمل في الحياة، لكن ما لم يفطن إليه السيسي هو استحالة فاعلية هذا الكارت للأبد، لذا كان من المنطقي أن تطلق الإيكونوميست تحذيرها؛ يجب إنقاذ مصر هذه المرة فقط، لأنها ستكون الأخيرة.
إن خطورة هذا الوضع تكمن في الاستقرار النسبي الذي يمكن أن نشهده خلال أشهر قليلة في ثبات سعر الصرف نتاج ضخ مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي في خزانة الدولة، وما يتبعه من ثبات مرحلي في أسعار السلع، وهو ما يوحي جزافيًا بسيطرة الدولة على سوق العملات وعلى الاقتصاد. ومع ذلك، فإن هذا الوضع يمكن وصفه بهدوء ما قبل العاصفة، أو بالأحرى هدوء ما قبل الانهيار المفاجئ، إذا لم تتغير السياسات بشكل جذري.
انتشرت في الآونة الأخيرة، بشكل كثيف، تدوينات وفيديوهات لمواطنين بسطاء لا ينتمون لتيارات سياسية، يشكون سوء الأوضاع والغلاء الفاحش وعدم قدرتهم على مجاراة ارتفاع الأسعار وعدم تحملهم تكلفة المعيشة، بل فشلهم في توفير قيمة الغذاء البسيط.
فعندما ترى مواطنًا مصريًا يبكي لأنه لم يأكل منذ يومين، في دولة لا تعاني من حصار أو عقوبات اقتصادية أو قوى استعمارية، فذلك مؤشر خطير أن الوضع على شفير الانفجار والبلاد على حافة الانهيار.
هذا الشعب لن يتحمل أكثر، ولذلك ربما تكون هذه هي الفرصة الأخيرة للنظام الحالي كي يتدارك كوارثه جديًا. وفي حال عدم تداركها، فإننا مقبلون على مرحلة سوداوية لم نر لها مثيلًا في تاريخ مصر الحديث.