منذُ سنوات اكتُشِف نقشٌ شعريّ باللغة البابلية على لوحٍ حجريٍّ، وهذا النقشُ الذي يعودُ لأكثر من 4000 عام، قصيدةٌ على لسان صبيّةٍ عاشقة تقول فيها:
وابحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني/ أنا في البريّة
وقد انتهيتُ من اقتلاعِ الأشواك
والآن سأزرعُ كرمةَ عنب
قد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء.
فأحبَّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة
واعتنِ بي كما تعتني بقطيعِ ماشيتك
وابحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني.
ردّدتُ هذه القصيدة كتعويذةٍ وأنا أتبعُ خُطى صديقتي الألمانية في مقبرةٍ شرقَ برلين بحثًا عن قبرِ شاعرةٍ أخرى، ماتت انتحارًا وهي تحاول اقتلاع الأشواك عن حياتها، علَّها تصبحُ أكثر حنانًا، علَّها تصلحُ للعيش، لكنّها لم تفلح، ربّما لأنّ الأيّام الثلاثة التي قضتها تحت الأنقاض مع كلبها وجثّة والديها أثناء الحرب العالمية الثانية لم ترضَ مفارقة ذاكرتها، رافقَتْ تلك الذكرى القاسية سنواتها المتبقية كأثرٍ لا ينسى من الحرب، لذا اختارت الشاعرة الألمانية أنكه مولر المغادرة وهي في الأربعين من عمرها، غادرت دون وداع الحياة التي كانت مجرّد جرحٍ لا يندمل، هي التي حاولت مرارًا أن تنجو خلال الشِعر، لكنّه دفعها للغرقِ أكثر في الماضي، الجرحُ المفتوح غير القابل للالتئام، بقي الشِعر رافضًا منحها العزاء الذي نشدته من الحياة، كان يكشطُ بشفرةِ حلاقة حادة لزوجها الشاعر هاينر مولر ما تبقى من أملٍ لديها، تساقطَت عليها حجارة خيانة زوجها مع أخيها الشاب الصغير، ولم تتوقف الحجارة عن دفنها وهي حيّة تحت الأنقاض.
اختارت الشاعرة الألمانية أنكه مولر المغادرة وهي في الأربعين من عمرها، غادرت دون وداع الحياة التي كانت مجرّد جرحٍ لا يندمل
اقتربنا من قبرها الذي كان بريًا وغير قابل للتدجين مثلَ قلبها، تحيط به النباتات والأعشاب البريّة، فيما القبور المحيطة بها مزيّنة بزهور منسّقة ومرتّبة ونباتات للزينة. وضعتُ قرب شاهدة القبر إهداءً على الصفحة الأولى لكتابي الموت كما لو كان خردة، كان العنوان يشبهُ حياتها تمامًا، خُيِّل لي أنّهُ كتب لحياتها فقط، وجدتُ زهرةً ذابلة التقطتها في الطريق وضعتها أيضًا مع قبلة، طلبَت منّي صديقتي أن نقرأ لها بضعًا من قصائدها، قرأناها فيما كان المطرُ يسقطُ ناعمًا من حولنا، شعرت لوهلةٍ أنّ روح أنكه مولر تطير حولنا بعينيها الحزينتين اللتين رافقتا سنوات عمرها حتى تلك اللحظة، التي قرّرت فيها الانتحار ومغادرة هذا الألم الكبير الذي يدعى الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: كوليت أبو حسين.. إملاءات الموت
غادرنا قبر أنكه مولر، وفي منتصفِ طريق العودة مررنا بقبرٍ لسيدة اسمها آنا، أعادني اسمها للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، ملكة نهر النيفا، تخيّلتها مرتديةً ثوبًا أزرقَ وجالسة في لوحةٍ لحبيبها وصديقها مودلياني، بذلك الوجه الذي مثل بقايا حطام مدينة قديمة، أكادُ أسمعُ صدى صوتها الحار والمرتجف يتردّد في حدائق موسكو الباردة، روحٌ هائلة في جسدٍ ضعيفٍ وواهن، ولا شيء سوى الخذلان، الغيرة، القسوة، الفقدان، الهجران، الكذب، الحبّ المر، والوحشة والإهانة التي كانت تضيء أعلى جبينها، فيما هي تكتب مجبرةً خمس عشرة قصيدة لستالين كيلا يعدم ولدها الوحيد، قصائدَ اعتذار عن نشيدها الجنائزيّ الجميل الذي كتبتهُ عن الحياة في ظلّ الدكتاتورية، أمسحُ جبينها علّني أغسلُ ذاكرتها من الإهانة، لكنّ الإهانة بقيت ترافقها في كلّ دروبها، كصديقٍ ودود ومخلص، وتغتسل معها على ضفاف نهر الينيسي، تتشمّس معها على ساحل البحر الأسود، الإهانةُ المُرّة بقيت عالقة بها كالإشنيّات رغمَ صمتها لعشرين عامًا، الإهانة من زوجٍ تخلّى عنها وهجرها ليصيد الأسود في أفريقيا، فيما كان الشِعر يصطاد ما تبقّى من حياتها بسهولةٍ.
أتخيّل روحها في هذا النهار الماطر تمشي في ساحات موسكو بحثًا عمّن فقدتهم، الأحبّة الذين ماتوا، قتلوا، اعتقلوا، والدكتاتورية التي امتدّت بظلّها لتطغى سماء روسيا، صمتت الشاعرة لسنوات طويلة دون عزاء، دون سلوى، فقط قلبها الحار يطير بعيدًا وراء ظلال الذين فقدتهم انتحارًا وموتًا وهجرانًا، لم يكن أيّ عزاء، حتّى الشعر الذي كتبتهُ:
إلى الشِعر
كم قُدتني في الطرق الوعرة،
كنجمٍ يسقطُ في الظلام
وكنتَ لي حُرقةً، وكذبًا
أمّا عزاءً ـ فما كنتَ أبدًا!
ولن يكون أبدًا عزاء، هذا ما أكّدتهُ حياةُ الشاعرة الروسية الأخرى ماريينا تسفيتايفا. ماريينا التي يقفزُ وجهها من بين أغصان شجر البلوط في المقبرة، طازجًا خاليًا من الألم، كما لو أنّها لم تعش كلّ تلك القسوة يومًا، أضعُ إكليل وردٍ على أطراف لينينغراد، ونرش سويًا ماء الورد على الحبل الذي ربطت به حقيبتها، الحبل الذي أهداه إياها صديقها باسترناك في محطّة قطارٍ ذاهب من موسكو، نحاول تنعيمهُ بشفرة حلاقة، ليكون ملائمًا لعنق امرأة رقيقة مثل ماريينا.
نمرّر من خلال الحبل قصائدها، المنفى الذي عانت فيه، أصوات أحبّتها الذين غيبتهم معتقلات الدكتاتورية، زوجها، أختها وابنتها، كل منا تعرفُ أن الحياة سوداء مثل الإهانة، قاسية مثل المنفى، وحنونة مثلَ حبلِ صديق نستخدمه للخلاص من حياةٍ أصبحت خردةً فقط.. تهمسُ بأذني ماريينا وهي تضع الحبل حول عنقها:
الشعرُ لا يتخلّى عن أصحابهِ، يرافق خطواتهم ككلب وفيّ، ينبح على السعادة إذا حاولت الاقتراب من باب بيتك، ويرافقك للمقبرة بكلّ حنان الرجال الذين أحببتهم.
انظري هناك في مقبرة فورست هيلس، تجلس آن سكستون، تدخن سيجارتها رفقة الكآبة، إنها مثلي تتحدث مع أشباح حياتها، وتريد أن تبقى بسلامٍ في قبرها، لكنّ الشِعر يظل رفيقًا لنا حتّى هنا، تأمّليه كيف يشرب كأس فودكا معها، كيف يراقبها بحبّ وهي تغلق على نفسها كراج البيت، تدير محرّك سيارة وتسحب كلّ غاز أول أكسيد الكربون وتغادر فيما يد الشِعر تسند رأسها .
ماريينا محقّة، كان الشِعر بطريقة أو بأخرى يدفعُ الشاعرات للسير إلى مصيرهن، ألم تكتب فروخ فرخزاد نجمة سماء طهران الشاعرة الإيرانية التي ماتت بحادث سير وهي في الثانية والثلاثين متنبّئة بموتها المبكر قائلة:
قريبًا سأبلغ الثانية والثلاثين، صحيح أنّ الـ32 عامًا هي حياتي التي تركتها خلفي وأتممتها، لكن ما يشفع لي هو أنّني وجدت فيها نفسي.
لكن كيف عرفت أنّها ستموت في الثانية والثلاثين لولا يد الشِعر الحنون الذي ساعدها بتلك المعرفة المبكرة، فروخ الطائر الأزرق التوّاق للحبّ والحريّة في مجتمعٍ إيرانيّ تحكمه السلطات الدينية التي هاجمت الشاعرة طوال سنوات كتابتها، لكن في النهاية تورّم قلبها الجميل، تورّم قلب الحديقة:
قلبُ الحديقة تورّم تحت الشمس
قلب الحديقة ينزف بهدوء ذكريات خضراء.
لم نبتعد كثيرًا عن حديقة فروخ فرخزاد حتى رأينا قوس قزحٍ جميل يطلّ على سماء المقبرة، كان بعينين زرقاوين كخرزتين من إسطنبول، قوس قزح شبيه بذلك الذي صنعت منه مشنقة الشاعرة التركية نيلغون مرمرة، كانت رائحة البوسفور تملأ أنفنا فيما صرخة نيلغون تصدح عاليًا في أرجاء المقبرة:
من المؤسف طفل جديد هو جندي آخر في الجيش.
رفضت إنجاب الأطفال، لكنها كانت تواصل خلق الحياة من خلال السير في درب الشِعر الذي سلكته القلّة، أرادت أن تصنع من قوس قزح معلق في سماء إسطنبول مشنقة وحين لم تفلح في ذلك، رمت نفسها من شرفتها في الطابق السادس، لم يكن انتحارًا، كانت محاولة طيران للوصول لقوس قزح يطلّ على البوسفور في إسطنبول.
نكتب الشِعر ونهبهُ حياتنا ليبقى شابًا، جميلًا، لا يشيخ أبدًا. وإن كان لنا مجرّد قوس قزحٍ مصنوعٍ من مشنقة
اقرأ/ي أيضًا: أديل الخشن: أيتها الريح توقفي خارجًا
وصلنا لنهاية المقبرة، لفت نظري قبر طفلٍ رضيع، ذكّرني بحادثةٍ غريبة حدثت معي حين كنتُ في الحادية والعشرين من عمري، في ذلك الوقت انتابتني رغبة عارمة بالأمومة، حينها اكتشفت أن ثديي ممتلئ بالحليب، قالت لي الطبيبة أنّ هذا أمر غريبٌ ونادر، لأنك لا تعانين أيّة مشاكل طبيّة، التحاليل سليمة، هذه الحالة تنتاب النساء الحوامل، أو ربّما توقك ورغبتك الشديدة بالأمومة هي ما كان وراء هذه الحالة. شفيتُ من الحليب الذي ملأ ثديي، وأدركتُ أنّني أكتبُ الشِعر أيضًا بذلك التوق والرغبة الشديدة القديمة تجاه الأمومة، أكتبهُ كمن يذهبُ للموت، كمن سيخلقُ من العدمِ معنى، أكتبهُ وأهبهُ زهرة حياتي بسعادة مطلقة ولا أتمنّى أبدًا الشفاء منهُ، أكتبُ الشِعر كما فعلتِ الشاعرات من قبلُ ، ماريينا، أنكه مولر، فروخ، آن سكستون، نيلغون مرمرة، سيلفيا بلاث، آنا أخماتوفا وغيرهنّ الكثيرات والكثيرون من الشعراء.. نكتب الشِعر ونهبهُ حياتنا ليبقى شابًا، جميلًا، لا يشيخ أبدًا. وإن كان لنا مجرّد قوس قزحٍ مصنوعٍ من مشنقة.
اقرأ/ي أيضًا: