يحظى الأدب الإسبانيّ بحضورٍ قويّ ومُلفت في العالم العربيّ، ترجمةً وقراءة، خصوصًا في السنوات الأخيرة، حيث ازداد الاهتمام بهذا الأدب، وارتفعت وتيرة حركة ترجمته إلى لغة الضاد، لتدخل إلى المكتبة العربيّة أعمال جديدة لكتّاب جُدد لم يسبق أن تُرجمت أعمالهم. هنا وقفة مع أربعة أعمال روائيّة تتناول مواضيع مُختلفة قادرة على تشكيل صورة شاملة تقريبًا للمجتمع الإسبانيّ وتحوّلاته من جهة، ونقل الطرق التي يُفكِّر بها الكتّاب الإسبان وكيفية النظر إلى محطيهم وتحوّلاته.
1- من الظل
وضع الكاتب والروائيّ الإسبانيّ خوان خوسيه مياس (1946) لبطل روايته "من الظلّ" (منشورات المتوسط، 2018) ترجمة أحمد عبد اللطيف، عالمًا خاصًّا وغريبًا لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار قليلة، وهو عبارة عن خزانة ملابس يسكنها البطل ويتحوّل داخلها إلى شبح واقعيّ، يُراقب من الظل مُجريات حياة عائلة غريبة بدورها، شكَّل تفاصيل العالم الخارجيّ، خارج الخزانة، من خلال الاستماع إلى ما يروونهُ عنه.
ينقل البطل "دميان" إلى قُرّاء العمل تفاصيل حياة هذه العائلة، وما يستنتجهُ أيضًا من تصرّفاتها وسلوكها، مُبتعدًا أو مُنصرفًا عمّا عاشهُ واختبرهُ قبل دخوله إلى هذه الخزانة التي حوّلته إلى شبح حقيقيّ: "الملفت أنّ هذه الوسائل كانت في الحقيقة تتضاعف كلّما استحال بالفعل شبحًا حقيقيًّا، إذ إنّه في الحقيقة كان يتخلّى عن ماديّته مع الوقت أو هكذا بدا لهُ الأمر"، يقول خوان خوسيه مياس في وصفه لحياة بطله داخل خزانة الملابس.
2- غراميات
اعتمد الروائيّ الإسبانيّ خابيير مارياس في تشييده لروايته "غراميّات" (دار التنوير، 2019) ترجمة الراحل صالح علمانيّ على التنقّل المُستمرّ في حكايته بين أحداث تتخيّلها شخصيات العمل، وأخرى تعيشها، بحيث يجد القارئ نفسه أمام سؤال: هل هذه هي الأحداث الحقيقيّة أم المُتخيَّلة؟ كيف يمكن التمييز بينها؟ أو كيف يُمكن الاستدلال إليها منذ البدايّة؟
تبدأ الرواية بشيء من الوضوح وتنتهي إلى شيء من التعقيد، فالحكاية التي يرويها مارياس، على بساطتها، بدت مُحمَّلة بالتفاصيل المُعقَّدة، إذ تدور حول فتاة يلفت انتباهها في المقهى الذي اعتادت على تناول قهوتها فيه صباح كلّ يوم، زوجان مواظبان على تناول فطورهما فيه بشكلٍ منحهما، بالنسبة إليها، مظهر الزوجين المثاليين، قبل أن يتغيّر كلّ شيء بعد قراءتها خبر وفاة الرجل، وتكتشف فيما بعد أنّ من قتله هو صديقه، وبينما يروي مارياس تفاصيل الحادثة، يظهر للقارئ سؤال: هل هذه الأحداث هي ما تتخيّله الشخصيّات، أم أنّها ما تعيشهُ بالفعل؟
3- المطر الأصفر
يُقدَّم الكاتب والروائيّ الإسبانيّ خوليو ياماثاريس في روايته "المطر الأصفر" (المركز المصريّ العربيّ، 1995) ترجمة طلعت شاهين، حكاية تراجيديّة بطلها عجوز وجد نفسه، بفعل التحوّلات والأزمات الاقتصاديّة التي دفعت سكّان قريته إلى هجرتها بحثًا عن حياةٍ أفضل، وحيدًا برفقة زوجته داخل مساحة واسعة ومهجورة، شعر أنّهُ بات مُكلَّفًا لا بحمايتها، وإنّما على الأقلّ مؤانستها حتّى يموت.
تشتدُّ وحدة الرجل العجوز بعد وفاة زوجته، فيبدو عند هذا الحدّ مغموسًا بالهزيمة التي ألحقتها ظاهرة الهجرة باتّجاه المدينة والتطوّرات العُمرانيّة به، ليُمضي أخر أيام حياته مُستعيدًا حياةً مضت وانتهت، مُقارنًا أحوال اليوم الشاذّة وغير الطبيعيّة بأحوال الأمس، حينما كانت القرية مكانًا للعيش، لا للعزلة والوحدة، عزلتهُ بعد هجرة سكّانها ووفاة زوجتهِ، وعزلة القريّة بعد وفاته التي طوت سيرتها للأبد.
4- استسلام
تُحاول رواية "استسلام" (دار مسعى، 2019) ترجمة محمد الفولي، للكاتب الإسبانيّ راي لوريغا أن تُعيد قول ما قالتهُ رواية "1984" للكاتب البريطانيّ جورج أورويل، ولكن انطلاقًا من مراعاة السياقات التاريخيّة والزمنيّة المُختلفة، إذ إنّها تنقل مسارات رواية أورويل إلى زمنٍ جديد أكثر حداثة، تُحاول عبرهُ بلورة شكل جديد ومُختلف من أشكال الدكتاتوريّة.
يقصُّ لوريغا في روايته هذه حكاية زوجين تُجبرهما الحرب على هجرة قريتهما باتّجاه مراكز إيواء أقامتها سلطات بلادهم، ليكتشفوا بأنّ هذه المراكز عبارة عن مدينة مؤلّفة من منازل شفّافة تُلغي الخصوصيّة تمامًا، بحيث يكون سكّانها تحت مراقبة بعضهم البعض، وهو ما يدفعهم للانصراف عن أيّ تصرّف غير مألوف، خصوصًا الاحتجاج والتذمّر ضدّ السلطة التي أسّست هذه المدينة لإنتاج واقع جديد لا تكون فيه عرضة للتهديد.
اقرأ/ي أيضًا: