كيف ينظر الكتّاب إلى الكتابة؟ كيف ينظرون إلى القراءة أيضًا؟ الكتب التي يحبها الإنسان تعبّر بشكل سري عن الكتب التي يتمنى أن يكتبها. بين القراءة والكتابة الحديث مقصور على الكتب، لأن العمليتين تتمان من خلالها في الأولى، أو للوصول إليها في الثانية. هنا وقفة مع أربعة كتب تتجول بين هذه العوالم الشيقة.
1- الروائي الساذج والحسّاس
في كتاب "الروائي الساذج والحسّاس" (منشورات الجمل، 2015) للكاتب والروائي التركي أورهان باموق، ترجمة ميادة خليل، نقع على خمس محاضراتٍ كان صاحب "غرابة في عقلي" قد ألقاها في جامعة هارفارد الأمريكية سنة 2009، متحدِّثًا فيها عن الكتابة بصورةٍ عامّة، وكتابة الرواية بصورة خاصّة، بالإضافة أيضًا إلى حديثه عن القراءة باعتبارها العمود الفقريّ لمسيرة الكاتب الأدبية، مفرِّقًا هنا بين القارئ الساذج والآخر الحساس، تمامًا كتفريقه بين الروائي الساذج والروائي الحسّاس.
الروائي والقارئ الساذج عند أورهان باموق صاحب "الكتاب الأسود" هو من "لا يُشغل نفسه بالجوانب الفنية في كتابة وقراءة الرواية". أمّا الروائي والقارئ الحسّاس، يُعرّفه باموق بأنّه من "يولي اهتمامًا كبيرًا للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القارئ". هذا التعريف الذي وضعه الروائي التركيّ الحاصل على "نوبل للآداب" سنة 2006، وضعه أمام سؤال لم ينفكّ يطاردهُ بعد إلقائه لتلك المحاضرات، وهو: "هل أنت روائي ساذج أم حسّاس؟" ليجيب لاحقًا عنه قائلًا إنّ "الحالة المثالية هي التي يكون فيها الروائي ساذجًا وحسَّاسًا في الوقت نفسه".
يُفسِّر صاحب "متحف البراءة" إجابته هذه في المحاضرة الثانية التي يضمّها هذا الكتاب، والتي عنونها بـ "سيد باموق، هل حدث حقًّا كل هذا معك؟". وفي محاضرات أخرى، يتحدّث أيضًا عن آليات كتابة الرواية، وصناعة شخصياتها، والطريقة التي ظلّ مواظبًا على استخدامها في تعامله مع شخصيات رواياته، والبدء بالفكرة الأولى، زراعتها وسقايتها شيئًا فشيئًا إلى تصير مخطوطة كتابٍ ما، قبل أن تتحوّل أخيرًا إلى رواية.
2- المكتبة في الليل
يملك الكاتب والروائي الأرجنتينيّ ألبرتو مانغويل شغفًا خاصًّا وعلاقة أكثر من حميمية بالكتب والمكتبات والقراءة. إنّها علاقة دائمًا ما بدت لقرّائه ومحبّيه علاقةً متفرِّدة وغريبة، وكان قد عبّر عنها بقوله "وحدها القراءة كانت مبرِّري للبقاء". أمّا في كتابه "المكتبة في الليل" الصادر عن (دار الساقي) ترجمة أحمد أحمد؛ يروي مانغويل صاحب "كل الناس كاذبون" أسرارًا وتفاصيل تخصُّ علاقته هذه بالكتب والقراءة، محاولًا بذلك قدر المستطاع أن يُطلع قرّائه على هواجسه الداخلية إزاء هذا العلاقة من خلال استعادتها منذ أن بدأت، وصولًا إلى اللحظة التي قرَّر فيها أن يكتب هذا الكتاب، مُستعرضًا في الوقت نفسه الأحداث التي جرت بين هذين الزمنين.
في "المكتبة في الليل"، يتحدّث ألبرتو مانغويل صاحب "مدينة الكلمات" عن مكتبته التي ظلّت بعيدة عن فكرة المكتبات التي تؤسَّس لغرض الزينة أو "الديكور"، وتُملأ فورًا بمجموعات هائلة من الكتب لسدّ فراغ رفوفها وحسب. إنّه هنا يتحدّث عن مكتبة ظلّ لسنواتٍ طويلة وطويلة جدًا مواظبًا على جمع ما تحتويه الآن من كتب، أي أنّ بنائها استغرق جزءًا كبيرًا من سنوات حياة صاحب "تاريخ القراءة"، إلى أن وصلت إلى الشكل الذي هي عليه الآن. وإلى جانب مكتبته التي يهوى دخولها والقراءة فيها ليلًا، يمرُّ مانغويل بنا في مكتبات الآخرين، ساردًا حكاياتها وتاريخها وما مرّت به من تحوّلات ساهمت إمّا في إنعاشها، أو إنهائها.
3- فن الرواية
يؤمن الكاتب والروائي البريطانيّ كولن ويلسون (1931 – 2013) بأنّ "الرواية أوّلًا وقبل كل شيء، ليس الغرض منها تقديم المتعة للقارئ فحسب، بل إنّها وسيلة تساعد الكاتب على هضم تجربته". وأيضًا أنّ "الفنّ مرآة، يرى فيها المرء وجهه هو". استنادًا إلى إيمانه هذا، أضف إلى ذلك أنّه كان روائيًا وأستاذًا محاضرًا في عدد من الجامعات الأمريكية حول الأدب والقراءة، تمكّن كولن ويلسون من إنجاز كتابه الشهير "فن الرواية" (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008) ترجمة محمد درويش.
لا يتحدّث صاحب "اللامنتمي" هنا عن تجربته الشخصية في عوالم الرواية وفنون كتابتها كما قد يُخيّل للبعض. إنّما، وعلى العكس تمامًا، يولي اهتمامًا واضحًا بأسرار هذه الصنعة الأدبية المعقّدة والبسيطة في آن معًا، ويذهب في ذلك إلى حدود العودة إلى بدايات ظهورها، حيث كانت الرومانسية آنذاك تطغى عليها، قبل أن تخضع لعمليات تحوّل وتطوير مستمرّة وصلت بها إلى القدرة على سرد الوقائع وتوثيقها. يفعل كولن ويلسون هذا كلّه من خلال اعتماده الحديث عن روايات أحدثت نقلةً ما في تاريخ الرواية، أو مهّدت الطريق لولادة اتّجاه وأساليب جديدة في كتابة الرواية التي يؤكّد في كتابه هذا بأنّها لم توجد لغرض تسجيل الواقع وتوثيقه، بقدر ما جاءت لتكون وسيلةً لتسجيل ذواتنا، ذلك أنّها المرآة التي يرى فيها الروائي نفسه.
4- داخل المكتبة خارج العالم
"كل ما يطلبه منك هذا الكتاب هو ألّا تقرأ مثل باقي الناس وإلّا ستفكّر مثلهم. فهذه المجموعة ليست عن الكتب، ولا عن المكتبات، بل عن القراءة كفعل وممارسة وكيف ينظر لها تسعة من كبار المؤلّفين العالميين الذين أثروا العالم بنتاجهم المتميّز". بهذا الشكل، يُقدِّم المترجم راضي النماصي كتابه "داخل المكتبة خارج العالم" (دار أثر، 2016) لقرَّائه. مؤكِّدًا في الوقت نفسه أنّه لا يطلب منهم أن يتبعوا ما يُقال في الكتاب أيضًا عن القراءة، ولكن، ألّا يقرأوا كما كانوا يفعلون سابقًا.
جمع راضي النماصي في "داخل المكتبة خارج العالم" 9 نصوص لكتّاب وروائيين مختلفين يتحدّثون فيها عن القراءة. هكذا، سنقرأ أوّلًا نصًّا بعنوان "كيف نقرأ كتابًا كما يجب؟" للكاتبة والروائية الإنجليزية فرجينيا وولف تقول فيه: "النصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة هي ألا يتبع أي نصيحة؛ هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصل إلى استنتاجاتك الخاصّة". وفي نصٍّ آخر بعنوان "القرّاء الجيدون والكتّاب الجيدون" للروائي الروسيّ فلاديمير نابوكوف، يقول: "على المرء في القراءة أن يلاحظ التفاصيل ويعاملها برفق". وعلى هذا المنوال، تنهال نصوص الكتاب مقدّمة أفكارًا مختلفة ومتباينة حول القراءة، غير أنّها تتّفق جميعها حول مسألة النصيحة وعدم الالتزام بها.