هذه المساحة مخصصة لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
تُرجم الأديب الروسي أنطون تشيخوف (1860 – 1904) إلى اللغة العربية على يد مُترجمين كُثر، لكنه قُرأ أكثر ما قُرأ من خلال المختارات التي نقلها إلى اللغة العربية المترجم المصري الراحل أبو بكر يوسف (1940 – 2019)، وصدرت عن "دار التقدم" في موسكو عام 1981، وأعادت "دار رادوغا" التي تفرّعت عنها طباعتها عام 1987، في أربع مجلدات.
تَرجم يوسف المختارات السابقة عن الروسية مباشرةً، وبطريقة أظهر من خلالها افتتانه وشغفه بعوالم تشيخوف الذية يقول عنه في تقديمه لأعماله المختارة التي صدرت عن "دار الشروق" عام 2009: "جاء تشيخوف الفنان إلى دنيا الأدب حاملًا رؤية جديدة ترتدي ثياب الفكاهة والسخرية، ومفهومًا جديدًا عن "المضحك" لا باعتباره شيئًا كوميديًا، بل باعتباره تراجيكوميديا؛ يجمع بين البسمة والسخرية والحزن، وهذا ما ميّزه عن بقية الكتّاب الروس".
ترجم أبو بكر يوسف أعمال أنطون تشيخوف بطريقة عبّر من خلالها عن افتتانه وشغفه بعوالمه
تعود بدايات قصة المترجم المصري مع تشيخوف والأدب الروسي عمومًا إلى عام 1959، حين أوفدته الحكومة المصرية مع متفوقين آخرين إلى روسيا لمتابعة الدراسة هناك، وبتخصص متمايز عن تخصصات الآخرين هو اللغة الروسية التي درسها في جامعة موسكو الحكومية، التي دخل من قاعاتها إلى فضاء الأدب الروسي الذي شعر، مع الوقت، بأنه لا يريد أن يكون مجرد قارئٍ له. ولذلك، اختار بعد حصوله على شهادة الدكتوراة في الأدب الروسي البقاء في موسكو والعمل مترجمًا في "دار التقدم" ثم "دار رادوغا".
عمل يوسف في داري "التقدم" و"رادوغا" إلى جانب عددٍ كبير من الأدباء والمترجمين العرب، مثل العراقي غائب طعمة فرمان ومواطنه خيري الضامن، ومواهب كيالي وحسيب كيالي ووصفي البني من سوريا، بالإضافة إلى المصري عبد الرحمن الخميسي، والشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن وغيرهم. وتُعد رواية "والفجر هادئ هنا" لبوريس فاسيلييف التي صدرت عن "دار التقدّم" في عام 1974، أول ترجماته المنشورة.
لكن قصة الراحل مع الترجمة بدأت قبل ذلك بسنوات، إذ يقول في أحد حواراته القليلة والنادرة جدًا إنه حاول في بداية ستينيات القرن الماضي ترجمة تشيخوف إلى العربية، وكانت قصة "السيدة صاحبة الكلب" أول ما اشتغل على ترجمته. لكنه شعر، بعد انتهائه من ترجمتها، بأن هناك ما ينقصها، وهو روح وعبقرية تشيخوف، فتوقف حينها عن ترجمته قُرابة 20 عامًا انشغل خلالها بترجمة الشعر والقصة القصيرة.
ومع بداية الثمانينيات، شعر أبو بكر يوسف بأنه تمرّس في الترجمة وطوّر أدواته ومعارفه بما يكفي للعودة إلى ترجمة تشيخوف الذي قضى حوالي 3 سنوات في ترجمة مختارات من أعماله صدرت في أربع مجلدات؛ مجلد للقصة القصيرة، ومجلدين للروايات القصيرة والطويلة، والرابع لمسرحياته. وقد صدرت هذه المختارات عن "دار التقدّم"، ثم أعادت "دار رادوغا" المتخصصة في الأدب طباعتها. ومنذ ذلك الوقت، أصبح المترجم الراحل أفضل مترجمي تشيخوف إلى العربية، ولقِّب بـ"شيخ المترجمين العرب" عن الروسية.
وإلى جانب أعمال تشيخوف، ترجم يوسف عددًا كبيرًا من الأعمال الأدبية الأخرى، منها: مسرحية "البرجوازيون" لمكسيم غوركي، و"الفجر هادئ هنا" لبوريس فاسيلييف، و "في خنادق ستالينجراد" لفيكتور نيكراسوف، ومختارات شعرية لألكسندر بلوك، بالإضافة إلى ترجمات أخرى أنجزها برفقة مترجمين آخرين، مثل "المفتش العام" لنيقولاي غوغول التي ترجمها برفقة غائب طعمة فرمان الذي ترجم برفقته أيضًا مختارات نثرية لأكسندر بوشكين، وغيرها.