هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.
لا يستعاد الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 – 2007) بصفته شاعرًا فقط، وإنما مُترجمًا فذًا رأى إلى الترجمة بوصفها سبيلًا لتوسعة دائرة انفتاحه على جغرافيات جديدة ومغايرة، وجسرًا يمتد عبر اللغات ويجعل: "جميع اللغات والكتابات في النهاية تتشارك وتتداخل وتتلاحم لتخلق شيئًا جديدًا"، وفقًا لما ذكره في حواره مع صلاح عواد الذي نُشر في العدد الرابع من مجلة "نزوى"، الصادر في نيسان/ أبريل عام 1996.
يرى بولص أن ترجمة الشعر تُكمل مهمة الشاعر التي هي أساسًا أن يخلق قصائد تعبّر عن مرورها في هذا العالم
مارس سركون بولص الترجمة بوصفها نوعًا من أنواع الشعر، الذي دفعه شغفه به إلى ممارسته عبر الكتابة أحيانًا، والترجمة في أحيان أخرى، مما جعل منها إحدى أبرز ركائز تجربته الشعرية. يقول في الحوار نفسه في هذا السياق: "أنصح كل شاعر أن يعرف لغة أخرى بشكل جيد وممتاز إذا أمكن، وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة".
ورأى مؤلف "عاصمة الأنفاس الأخيرة" بأن ترجمة الشعر، بحسب ما جاء في حوار أجراه معه حسن نجمي في أيار/ مايو 2002، ونُشر في العدد 15 – 16 من مجلة "البيت" الصادر في كانون الثاني/ يناير 2010، تُكمل: "مهمة الشاعر التي هي أساسًا أن يخلق قصائد تعبّر عن مرورها في هذا العالم".
وفي جميع ترجماته، بدا الشاعر العراقي الراحل حريصًا على الأمانة في تقديم النص المترجم من جهة، وتقديمه بأسلوب يبدو فيه مكتوبًا باللغة العربية، وليس مترجمًا، من جهة أخرى. يقول في حواره السابق مع حسن نجمي: "أنا لا أترجم، أنا أحاول أن أخلق نصًا مبنيًا على هذا النص الذي أترجمه بأقصى ما يمكن من الأمانة. ما هي الأمانة – في النهاية – شعريًا؟ الأمانة أن تكون أمينًا للمعنى ولقوة النص على الإقناع".
وحول الموضوع نفسه، يقول في حواره مع صلاح عواد: "عندما أترجم – خصوصًا الشعر – أقوم بكتابة النص من جديد باللغة العربية محاولًا أن أجد الصوت الكافل كما ينبغي أن يكون بالعربية لذلك الشاعر المتَرجم". لذلك يرى، وفقًا لما جاء في حوار أجراه معه برهان شاوي، ونُشر في جريدة "الاتحاد الظبيانية" في تموز/ يوليو عام 1997، أن ترجمة الشعر العالمي: "لا يمكن إلا أن تكون نثرًا اعتمادًا على تقاليد قصيدة النثر. لذلك أعتقد إننا لا نستطيع أن نترجم شعرًا عالميًا جيدًا إلا إذا كنا نُتقن كتابة قصيدة النثر".
ترجم سركون بولص، بين منتصف ستينيات القرن الفائت وحتى وفاته في الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2007، عددًا ضخمًا من القصائد لأكثر من 130 شاعرًا من أجيال وجنسيات مختلفة، لعل أبرزهم شعراء جيل "البيتنكس" الذي يُعتبر الراحل أول من قدّمهم، على نحو واسع، إلى العالم العربي، حيث أعد عنهم ملفًا خاصًا نُشر في العدد 40 من مجلة "شعر" الصادر في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1968، وضم عدة قصائد لكل من غاري سنايدر، ومايكل مكلور، وآلن غينسبرغ.
ترجم سركون بولص بين منتصف ستينيات القرن الفائت وحتى وفاته عددًا ضخمًا من القصائد لأكثر من 130 شاعرًا من أجيال وجنسيات مختلفة
نشر صاحب "عظمة أخيرة لكلب القبيلة" ترجماته في صحف ومجلات مختلفة، ولم تصدر في كتب مستقلة إلا بعد وفاته، حيث أصدرت "منشورات الجمل" عددًا منها: "رسائل عيد الميلاد وقصائد أخرى" لتيد هيوز، و"قصائد مختارة" لـ و. هـ أودن، و"قصائد مختارة" لـ و. س. ميروين، و"عواء وقصائد أخرى" لآلن غينسبرغ، و"مختارات شعرية" ليانيس ريتسوس، بالإضافة إلى كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، وكتاب "قصص عالمية مختارة"، وغيره.
وفي عام 2016، أصدرت "منشورات الجمل" كتاب "رقائم لروح الكون"، الذي يضم مجموعة ضخمة من ترجمات سركون بولص لأكثر من 130 شاعرًا من الصين واليابان والهند وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بعضها نُشر في صحف ومجلات مختلفة، وبعضها الآخر يُنشر لأول مرة. ومن بين هؤلاء الشعراء، نذكر: سيلفيا بلاث، ولاس ستيفنز، أ. ر. أيمونز، هاري مارتنسون، وانغ وي، طاغور، شينكيشي تاكاشي، ناظم حكمت، إيتيل عدنان، بوكوفسكي، ديريك والكوت، ليفرتوف، كارل شابيرو، ماريان مور، راندل جاريل، وغيرهم.