ينَّير أو ينّاير، أو ينّار أو الحكوزة أو إيض الناير؛ تختلف المسميات والمقصود واحدٌ وهو رأس السنة الأمازيغية. وقد يفاجأ البعض من وجود هكذا يوم، وقد يغلب الظن عند القارئ الذي لا ينتمي لهذه البقعة من العالم أن المحتفلين به أقليات إثنية مشتتة في كيانات وطنية، على شاكلة الأقليات الأخرى.
كان الزمن عند الحضارات القديمة زمينين: واحد خطي وهو التاريخ، والآخر دوري وهو التقويم المرتبط عند الأمازيغ بالزراعة
بيد أن الواقع أنهم يمثلون امتدادًا من واحة سيوة المصرية إلى جزر الخالدات، وهم شعب له هويته الخاصة لغةً وثقافةً وعادات، متشبثون بها آباءً عن أجداد إلى يومنا هذا، ويغارون عليها من الاضمحلال.
اقرأ/ي أيضًا: ينّار.. هكذا يحتفل الأمازيغ بسنتهم الجديدة
وتعود قصة هذا اليوم، كما هو متعارف بين أهله، إلى احتلال شيشنق الأول الليبي منصب فرعون مصر، ومنه ابتدأ حكم الأمازيغ للبلاد. وهكذا يُخلد الأمازيغ تاريخهم بهذه الحادثة، كما يحسبون سنواتهم انطلاقًا منها، محتفلين في يوم 12 من كانون الثاني/يناير بحلول سنة جديدة في تقويمهم.
ولهذه الاحتفالات عادات وتقاليد، تغوص جذورها عميقًا في ذاكرة هذا الشعب ومعيشه اليومي، تعبر عن فرحة واستبشار دائم بالمستقبل.
واعتلى شيشنق عرش مصر
تعود القصة إلى نحو ثلاثة آلاف سنة، حوالي سنة 950 قبل الميلاد، حين اعتلى شيشنق بن نمروت، سليل قبيلة مشاوش الليبية، والقائد الباسل المقرب من آخر فراعنة الأسرة الـ21، عرش مصر.
وبشكل سلمي، وبأقل صراع يذكر، تقول الفرضية الأولى، وتحيل إلى كون القبائل الأمازيغية منحت إبان تلك الفترة حق الإقامة في البلاد، مقابل خدمتهم في الجندية الفرعونية.
بيد أن لهذا الطرح مقابلًا عند المؤرخ الإغريقي هيرودوت، والذي يذكر أن المصريين كانوا في حرب مفتوحة مع الليبين المستوطنين غرب النيل، وهكذا تعود رواية الهزيمة التاريخية للأسرة المصرية الـ21 مطروحةً.
ومهما تكن الحقيقة بين الروايتين، يبقى أن شيشنق تولى العرش، ثم السلطة الدينية، بتنصيب ابنه كاهنًا أعظم لمصر، فجمع كل السلطات التي خولت له حكم البلد، مؤسسًا لسلالته، إيوانٌ دام قرنين ونصف من الزمن، بالضبط إلى حدود 720 قبل الميلاد، فيما يسميه الباحثون حكم الأسرة الفرعونية الـ22.
الزمن الأمازيغي
يأخذ الأمازيغ هذا الحدث أصلًا لبداية تأريخهم، هكذا تكون السنة التي نقبل عليها هي 2969. غير أن اختيار الـ12 من كانون الأول/يناير كرأس سنة، يحيلنا إلى مفهوم التقويم المنتهج في تفصيل حساب السنوات، أي ترتيب الشهور، ومنه إلى قضية الزمن عند الإنسان القديم.
كان الزمن عند الحضارات القديمة زمنين: واحد خطي وهو التاريخ، والآخر دوري وهو التقويم. وبين التصورين يتجسد خطه العام، لو مثلناه في منحنًى بياني رياضي، على شكل منحنى متذبذب طوليًّا بين دورتين تحددهما الطبيعة في ثنائيتها أرضًا وسماء، صيفًا وشتاء، ميعاد البَذر وتوقيت الحصاد.
وكما يكون من الضروري ابتداء التأريخ بحدث عام مرجعي كحكم حكم بلاد الفراعنة، يقسم الوقت بعد ذلك إلى دورات، بما هو وظيفي في حياة الناس اليومية، ومعرفي يضمن لهم البقاء، واستعمالي لهذا الغرض.
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يكون التقويم الأمازيغي إلا فلاحيًا، كون تلك الشعوب شعوب زراعية، وقد ابتُكر ليقوم بهذه الوظيفة المعيشية، وهكذا نجده مضبوطًا على ساعة الأرض، و شمسيًا كون الشمس هي الجرم المؤثر الرئيسي على هذه الدورة.
بيد أن لغز اختيار يوم 12 كانون الأول/يناير، يوضح بطريقتين: واحدة بالغوص في التراث الشعبي للأمازيغ، حيث توجد أسطورة (يتغيّر أبطالها، وبعضًا من تفاصيلها بحسب البلدان)، وهي بين أمازيغ المغرب أن عجوزًا أرادت أن تتحدى يناير لأنه لم يكن باردًا، فاقترض هذا الأخير يومين من شباط/فبراير، الشهر الناقص دائمًا عند حدود 28 يومًا. وخلال اليومين تساقط الثلج والمطر حتى ماتت العجوز.
ويُختلف في رمزية العجوز كونها الأرض أو السنة، غير أن القصة تؤسس للموت والحياة في علاقتهما مع الزمن، في مخيال شعب هذه المنطقة؛ موت الأرض أو موت السنة، وكلاهما يتلوهما حياة بعد ذلك، حياة بعد انقضاء اليومين الأشد بردًا في السنة.
وهنا يمكن للقارئ أن يزور المغرب أو الجزائر أو تونس في هذه الأيام ليختبر الأمر بنفسه، ويوقن برد "الليالي"، وهو المسمى الذي يُطلق على الأيام التي تتوسط شهر كانون الثاني/يناير.
أما التفسير الثاني، نعود فيه إلى تقويم مشابه هو التقويم اليولياني، الذي كان معتمدًا في روما، ولازال عند الكنيسة الشرقية، حيث يعد هذا التقويم متأخرًا في حساب الأشهر عن التقويم الغريغوري الشائع اليوم بـ13 يومًا. ونظرًا للتقارب الحضاري التاريخي بين الشعبين: الروم والأمازيغ، يرجح كون ذلك أصل اختيار يوم متمم للسنة الأمازيغية.
احتفالية رأس السنة
تحمل الذاكرة الشفهية الشعبية الأمازيغية عديدًا من مظاهر الاحتفال، عرفت تغيرًا مع مرور الوقت، غير أنها حافظت على رمزياتها. هكذا كان الأجداد يبدؤون احتفالات ينار قبل ليلة رأس السنة بيومين، يغيرون فيها في كل ليلة حجرًا من أحجار الموقد الثلاثة.
وفي الليلة الأولى، الموافقة لـ12 من كانون الثاني/يناير، يغيرون الحجر الأول، ويَطْلون المطبخ بالجير، ويعدون غذائهم الاحتفالي وهو طبق الكسكس بسبع خضار، يأخذون لُقيمات من الطبق قبل الشروع في تناوله، ويضعونها على عتبة البيت وفي أركانه إكرامًا لكل حي يجاورهم، حيوانًا كان أم جنًا، ولإحلال البركة حسب الاعتقاد السائد.
وفي الليلة الثانية وهي ليلة الـ13 من الشهر، يبدلون الحجر الثاني، وتجتمع العائلة لإحياء الليلة، ويطبخون عصيدة "تاكولا" التي تتكون من دقيق الذرة بالعسل والسمن أو زيت أركان، أو حساء "بركوكش" في الشرق المغربي، يضعون فيها نواة تمر، ومن يجدها يعتقد بأنه موعود بالحظ الوفير في العام الجديد.
وبعد وجبة تاكولا أو بركوكش، تتحلق العائلة حول أطباق الفاكهة الطرية والجافة، يأكلون حتى يشبعون، ويحرصون على إشباع الأطفال ظنًّا أنهم إذا ناموا جياعًا ليلة ينَّار ستكون السنة الجديدة كلها جوع.
في الليلة الثالثة، وهي اليوم الأول في شهر ينّار الذي هو أول شهور السنة الأمازيعية، يُبَدّل الحجر الأخير، ويتبدل معه كل أواني المطبخ الأمازيغي القديمة بأخرى جديدة مستعدة لأداء دورها في إطعام الأسر إلى ينَّار القادم.
الوزيعة طقس الفرح الجماعي
ينقل لنا الصحفي الجزائري إيدير دحماني، مشاهد من احتفالية رأس السنة في قرى جبال جرجرة، قائلًا في حديث لـ"ألترا صوت": "دائمًا ما يصحب تخليد رأس السنة بمداشرنا إقامة عرف الوزيعة". والوزيعة هي عرف أمازيغي تقليدي، يقوم فيه أهل القرى بجمع أموال لشراء عجول وذبحها جماعيًا، قبل توزيع لحمها بشكل متساوٍ على كل الأسر.
ويسترسل إيدير واصفًا: "شاركت هذه السنة حوالي تسع قرى، وجمعنا ما يقارب 520 مليون سنتيم جزائري، لشراء عشر عجول. ومع أول ساعات الصباح اجتمعنا بملعب القرية، قرية أحنيف الجزائرية، لإطلاق عملية الذبح والتوزيع. كان الجو رائعًا، زاده جمالًا تساقط الثلوج، ورغم انخفاض درجات الحرارة كانت حرارة اللقاء وفرحة العيد كفيلة بعدم الإحساس بالبرد".
ويُعد طقس الوزيعة حرصًا اجتماعيًا أمازيغي لإدخال الفرحة على كل بيت من بيوت القرية، باعتبار أن مسرّات العيد مشاع بين كل أهل الأرض، مشتركًا بين الكبير والصغير، وبين الغني والفقير كذلك، تحت شعار مؤسس لعيش هذا الشعب: أن لا أحد يحرم من فرحة العيد مهما كان وضعه المادي والاجتماعي.
أنثروبولوجيا الاحتفال بينَّار
بالموازاة مع تلك الطقوس الأساسية في احتفالية رأس السنة الأمازيغية، للأمازيغ عدة معتقدات مصاحبة لهذا اليوم الخاص، مثل تعليق عريشة نخيل أو غصن شجرة غض على أسطح بيوتهم طيلة أيام الاحتفال، لجلب البركة لأهل الدار. ومن عاداتهم كذلك البقاء دون اغتسال وحلق أو كنس البيوت، مخافة أن تذهب بركة تلك الأيام خلال عملية التطهير، وهناك معتقد بحُرمة العمل خلال ثلاثة أيام رأس السنة.
والمشاع في طقوس احتفال ينار هو ذلك الارتباط الوطيد بالأرض، وكما يحيلنا عليه تقويم الشهور الذي هو بتعبير آخر تنظيم للحياة البشرية على دورة الأرض والفصول والتحولات المناخية؛ فإن الثابت في طقس الاحتفال برأس الوجود الأساسي للمنتجات الفلاحية السنوية، ما يكرس ذلك الارتباط، والذي يتفجر في معتقد إشباع الأطفال، أو بمعنى آخر إشباع الروح المتجددة، بالتالي إكرام الغيب لتكون السنة جيدة، أي فلاحيًا، بما أن الزراعة هي المصدر الأساسي لحياة هذا الشعب.
وعند هذه النقطة يبرز مفهوم "الفال"، بالرغم من كونه تمزيغًا لسانيًا لمصطلح "الفأل الحسن"، إلا أن دلالته المفاهيمية فريدة عن الأمازيغ، وتكشف في عمقها ماهية العلاقة التي تربط إنسان تلك الثقافة وشؤونه الغيبية. و"الفال" كما يعرفه مصطفى قدري، الأنثروبولوجي المغربي لـ"ألترا صوت"، فهو: "إكرام الإنسان الأمازيغي للغيب، طمعًا في إكرام هذا الأخير له، اتقاءً كذلك لشره".
وعلى هذا التعريف يتأسس فهم الطقوس الغيبية للأمازيغ، والتي رغم تغيرها ثيولوجيًا، بقيت محافظة على ذات المبدأ في علاقتها مع ذلك الخفي والمستتر، سواء كان روحًا أو جنا أو إلهًا، وتبقى ضرورة إكرامه واجبة، في ما يسميه إدوارد ويسترمارك بالدين الشعبي المغاربي، و"هذا ما يفسر طقوس إخفاء لقيمات من الطعام في أركان المنزل، أو تعليق عريش النخل فوق سطوح البيوت"، يقول مصطفى قدري.
كما تشير عادة تكسير الأواني المنزلية الموروثة من السنة الماضية، إلى دلالة أخرى وارتباط آخر بثنائية الموت والحياة، يمكن فهم ذلك الطقس كتطهير من بقايا السنة الميتة، واستقبال الحياة في السنة الجديدة بأدوات جديدة كذلك.
المُشاع في طقوس احتفالات رأس السنة الأمازيعية، هو الارتباط الوطيد بالأرض، فهي احتفالات برأس الوجود الأساسي للمنتجات الزراعية السنوية
وليس احتفال ينَّار عادة شعبية فحسب، بل تتعدى دلالاته إلى عمق الهوية الأمازيغية التي هي بحكم الأمر الواقع جزء أصيل من الهوية المغاربية، تاريخًا وثقافة، بما هو عيد زاخر بالمعاني، وحافل بمشاهد البهجة والسرور. وكما ينطق اللسان الأمازيغي فـ"أسگاس أمباركي" أو "سنة سعيدة".
اقرأ/ي أيضًا: