في آخر حوار متلفز معه عام 1977، يقول مارشال ماكلوهن إن كل أشكال العنف هي عملية بحث عن هوية. وإن التكنولوجيا هي عنف بحد ذاتها. عنف لأنها الأداة التي نخرج بها من أنفسنا ومن أجسادنا لنسيطر على محيطنا في المقام الأول. وعلى هذا المقام يمكننا أن نفهم علاقتنا بأجسامنا على أنها علاقة عنف. وهذه العلاقة هي جزء من مسارات التناقض في تطورنا البشري. فإن ما تقدمه لنا الفنون التقنية وصناعة الصورة هو إحدى تفرعات هذا العنف الذي نمارسه على أجسادنا لنستنطقها فنخرج منها صورة نريدها أن تعبر عن هويتنا.
تبدو صناعة الجسم في الزمن الراهن الذي نعيش فيه، صناعة تنحو إلى إخفاء كلية الجسم لصالح إبراز فرانكشتايني للأعضاء على حساب وحدة قوامه وتوهجه في عاديته
وعلى هذا تبدو صناعة الجسم في الزمن الراهن الذي نعيش فيه، صناعة تنحو إلى إخفاء كلية الجسم لصالح إبراز فرانكشتايني للأعضاء على حساب وحدة قوامه وتوهجه في عاديته. ففي خروج الأعضاء من هذه الوحدة يصبح الجسم أصغر من أشيائه، وبالتالي ينسحب إلى خلفية متأخرة ومتوارية عن الطلب. وهذا العنف الانفصالي هو عنف متطلب للهوية، إذا ما استعرنا مقولة ماكلوهن. أي أن الجسم الموحد بات عاجزًا عن صياغة خطابه الذاتي والدفاع عن موقعه في النظر واللمس والحميمية. صار جسمًا معطلًا خارج صناعة التأثير والإغراء. وما انبراء الأعضاء لاعتلاء منبر الجسم هذا وتنحيته عن سبل التعبير عن كليته إلا خروج الفروع عن الأصول ومحاولة لمصادرة عملية تمثيل هذا الجسم لنفسه.
وهذا التصدر للأعضاء المتفرقة على حساب الجسم الموحد ما هو إلا تغيير في مستويات عمل الحواس بما هي آليات مصنعة للشعور، تنتج وتخرج من خلالها الأعضاء أحاسيسها، وبالتالي تؤمن للجسم وحدته وتواصله مع الأجسام الأخرى وموقعه في الاجتماع. فالجسم الدعي هو جسم يعيش في خفة أعضائه، يتحرك ويغوي ويحب ككتلة واحدة تعمل في مناخ ومستوى نظر واحد. أي أننا عادة لا نحب نهودًا لضخامتها فقط، أو نقيم علاقة مستقلة حصرية مع شفتين عريضتين أو لسان مثقوب أو ردف مفتول أو معدة مقطعة، أو زند منتفخ بغير تناسق مع عضلات الجسم الأخرى، أو أصابع قدمين كاملة التناسق والانسياب، أو أذن موسعة، أو عيون متورمة أو فرج منجَّد أو قضيب مضخم، كأعضاء مستقلة. فبروز الأعضاء كممثلة عن الجسم وتصدرها لغته البصرية والإنابة عنه وعن حواسه في التواصل والتأثير، هو إشارة درامية إلى تعب ووهن ألم بهذا الجسم في عملية تطوره التكنولوجية.
فتعب هذا الجسم هو نتاج حمل ثقيل تنكبه في مسار تطوره، أي في مفارقة سعيه الحثيث التاريخي لتوظيف التكنولوجيا في خدمته. وهو سعي موهوم، إذ إن ما يظهر لنا الآن بعد عقود من التقدم التكنولوجي والعلمي أن التراكم التكنولوجي لا ينتج بالضرورة رخاء للجسم، بل تكاثرًا وتسريعًا في أدائيته وتطلبًا مضاعفًا لإمكانياته في مجاراة تراكم التكنولوجيا وما تتطلبه من سرعة وتكثيف للأداء ومصادرة لوقت الراحة والمتع. والتصدي لهذه الأوزار في مجاراة إفرازات التكنولوجيا، هو مسؤولية كبرى يتنطح لها جسم عضلي وعظمي، محركًا برغبة خلاصية للانعتاق والكسل. وهذه الرغبة هي تصور يلاحق هذا الجسم في عملية إنتاج دائرية للأمل، سعي لاهث آملًا بالانتباه والتجاوب بعد أن تراءت له التكنولوجيا كمخلص يمكنها أن تريحه من أعباء لطالما أنَّ تحت أوزارها في حقبات تطوره.
وصراخ الأعضاء المنفردة هذه هي أصوات تعلو في محاولة للظهور ومناجاة للتواصل، لم يعد بإمكان الجسم الكلي أن يؤديها جنبًا إلى جنب المشقات التي يخوضها عبر أدائياته التقنية والوظيفية المتطلبة. أصوات الأعضاء المنفردة هذه التي تتصدر الصورة الميديائية هي صراخ جسم سقط في البئر، بئر الازدراء المملوء بالتعب واليأس والإرهاق. وهي بهذا عنف مضاد تتولى الأعضاء إنتاجه واستعماله لتفادي الغرق في بحور المشقات والإرهاق ومحاولة مستميتة لإيجاد مكان أعلى في تلؤلؤ الافتراض.
غير أن انفراد الأعضاء بالظهور متقدمة على الجسم، هو أيضًا تعب محكم، وهو تصور يقوم على استدعاء الوقت كمكون مفقود في أحياز ظهور هذا الجسم المتعب. فالأداء في الصدارة والتوهج كالنجوم، هو صناعة تتطلب مالًا ووقتًا. فعمليات التجميل والحقن البوتوكسي والعناية المستمرة، هي وقت صاف مقتطع من رزنامة هذا الجسم اليومية المتعب والمنهك أصلًا. وميزانية عالية في دفتر أكلاف الجسم المعيشية الاستهلاكية. وعليه فإن نقمة الأعضاء من الازدراء والإهمال والترهل، وغياب وقت المتع نتيجة انشغال الجسم وإرهاقه، وتناديها لتأسيس خطاب مستقل صارخ، هو إكثار من تغييب الجسم وإرهاقه، لصالح نظام عناية شديدة الحساسية وعالية التطلب والحذر.
وهذا صراخ خارج اللغة ومحاولة لدفنها وتخطيها، إلى نظام إشارات مباشر يتولى فيه العضو عملية التخاطب والتمثيل في ما يشبه لفظ الرمق الأخير. فاللغة بالنسبة لهذه الأعضاء أصبحت جيفة وبنية اتصال عقيمة غير قادرة على تلبية حاجات الجسم عبر إنتاج آليات المحادثات والتعبير والإغراء المألوفة. وبهذا تكون الأعضاء الساخطة قد أنتجت ظهورها المنفرد والميديائي كعملية تضحية بكلية الجسم عبر إنتاج سردية خاصة لكل منها. سردية يحركها دعاة وعرافون يطوفون على الشبكات الاجتماعية وشبكات المؤثرين وأنبياء الصوم المتقطع وعلماء التجميل وخبراء الرفاهية وفنانو الثقب والأوشام. فعملية التضحية بهذا الجسم عبر تشييد أبنية هذه السردية هو إعراب سلبي للتعب، وبالتالي هو صناعة مرتدة إلى داخل يذوي أصلا ويطلب منه تقديم أداء مرتفع.
بهذه الفيتيشية العالية للأعضاء يتمظهر أمامنا الجسم المكسور الذي يئن تحت أطنان من التروما المتتالية. فحركة الأعضاء هذه هي حركة اعتراض على عسف الزمن تنطلق من نقطة عدمية" نيهيلية" في ذاتيتنا كبشر. تنطلق من تصور كالح عن تبدد يتجه الجسم إليه، وعن ذوبان كلي في مملكة الأشياء المتسارعة، وتساوٍ في المراتب بين الجسم وبين الأشياء في شبكة الظهور الأدائي الممسرح. تساوٍ مفجع يجعل الأعضاء تخرج بجنون طلبًا للدعة.