فتاة سمراء بشعر أسود منسدل على الكتفين، تطل من نافذة مضاءة على أول الليل في الخارج. خلفها تصدح أم كلثوم من راديو قديم مثبت إلى الجدار: "أهرب من قلبي أروح على فين ليالينا الحلوة في كل مكان".
الهواء الرقيق المنعش، وضفادع البركة التي تحتفي بقدوم الربيع، وصرصور الحقل الذي يعزف اللحن نفسه بلا كلل..
الفتاة شاردة، فتبدو كواحدة من بطلات قصص تشيخوف الريفية. في وقفتها وفي عينيها مزيج من الضجر الخفيف والانتظار المترع بالأمل والفرح الساذج والامتنان لهذا العالم.. ودموع يطلقها أسى شفاف لا تعرف له سببًا، ولا تريد أن تعرف.
ماذا بوسع شخص يجاهد في أن يداري عن أولاده أخبار المجاعة التي باتت قريبة من بابه، ويجاهد في إقناعهم أن الكوارث، التي تجود بها الطبيعة والبشر، هي أشياء تصيب الآخرين فقط..؟!
وأنا أراقبها مبهورًا لاهثًا، أمانع قلبي في أن يفر من صدري. وكنت أذوب في كل ما حولي، وأتماهى مع كل تفصيل.. كل مفردة في هذا العالم البسيط والحنون. بل، وفجأة وبلا جهد ولا قصد، فهمت لغز الكون وسر الحياة، وإن كنت عاجزًا عن التفوه بحرف حولهما.
وكان هذا كثيرًا جدًا على أعصابي المشدودة، كثيرًا جدًا على قلبي الطري، فركعت على ركبتي ورحت أبكي.
وكانت هذه آخر مرة أختبر فيها فرحًا مزلزلًا كهذا يطلق دموعًا مدرارة كهذه.
بعد خمس وثلاثين سنة، لايزال الحنين يقتلني إلى ذلك المشهد، ولقد تحولت الذكرى إلى مفردة دائمة الحضور في مناماتي وأحلام يقظتي. وكلما أظلمت أيامي، ولكثر ما تفعل، وكلما غزاني اليأس وأضناني الإحباط. كلما أرهقتني وطأة الحياة وأخافني دبيب العمر المنذر بالأسوأ، وكلما أوشكت على أن أنفض يدي من هذا العالم المسكون بالشر.. أعود إلى هناك، إلى حيث فتاة سمراء تطل من نافذة مضاءة على مساء ربيعي تحييه أم كلثوم وضفادع البركة وصراصير الحقل.
إنه فخ الحنين الذي تنصبه لنا الذاكرة. أعرف، فقد قرأت عن ذلك في بضعة كتب. وأعرف كذلك أنه مما لا يليق برجل يسعى إلى الظهور بمظهر العاقل المتزن أن يكون سنده في الحياة ذكرى حمقاء مثل هذه.
ولقد انخرطت، أنا أيضًا، في السخرية من تلك النظرة الرومانسية البائسة للواقع، والتي تنقيه من شوائبه وتخلصه من تركيبه وتعفيه من تعقيده وتستعيض عن محاولة فهمه كما هو بخطاب إنشائي غنائي مبسط وسطحي.
ولكن ما حيلتي وقد كنت يومًا ذلك الفتى الأخضر الذي بكى امتنانًا للحياة، وإذا بالحياة تقذفه بخيبات بلا عد، وترميه وسط حرب بلا نهاية، اختلطت فيها أشلاء أحبائه بأشلاء وطنه، محيلة حاضره إلى كابوس طويل لا صباح يأتي لإزاحته؟!
ماذا بوسع شخص يجاهد في أن يداري عن أولاده أخبار المجاعة التي باتت قريبة من بابه، ويجاهد في إقناعهم أن الكوارث، التي تجود بها الطبيعة والبشر، هي أشياء تصيب الآخرين فقط..؟!
يصحو الألماني والياباني والأمريكي كل صباح على إنجاز ما لبلاده، وربما يختتم يومه بإنجاز شخصي له هو نفسه. وواقع زاخر كهذا لا بد أن يكون مقرونًا بوعود سخية من المستقبل
وإذا كان اليوم مدلهمًا ولا شمس سوف تشرق في الغد، فماذا يبقى سوى حفنة من ذكريات وصور تقبع في الماضي؟
لم يكن العالم جميلًا وطيبًا في أي يوم، ولكن ليس هذا ما أشعر بالحنين إليه، إنما أحن إلى نظرتي أنا إلى العالم.. إلى فهمي، أو بالأصح: عدم فهمي.. إلى جهلي السعيد وحسن ظني الأخرق. وفي قلب الحنين أمنية على هيئة سؤال حارق: ولم لا يكون العالم هكذا حقًّا؟!
يصحو الألماني والياباني والأمريكي كل صباح على إنجاز ما لبلاده، وربما يختتم يومه بإنجاز شخصي له هو نفسه. وواقع زاخر كهذا لا بد أن يكون مقرونًا بوعود سخية من المستقبل. فماذا عن ابن بلاد مثل بلادنا، يصحو يوميًا على قذيفة طائشة أو خبر انهيار أو تحذير من كارثة وشيكة؟.. حاضر بلا إنجاز وغد بلا ملامح.
يقال إن العرب لهذا هم مشدودون على الدوام إلى فردوس مفقود ما في ماضي مجيد ما. وفراديس العرب عديدة: العصر الراشدي، الخلافة الأموية، حضارة الأندلس..
أما فردوسي الشخصي المفقود فهو هذا: فتى غر، يقف قبالة فتاة حلوة ساذجة، ويبكيان بسبب جمال العالم.. العالم الذي لم يعد موجودًا.
نعم معكم حق: العالم الذي لم يكن موجودًا أصلًا.