مسلسل "العربجي" هو من أبرز مسلسلات الدراما السورية التي تمّ عرضها ضمن سباق المسلسلات الرمضانية في هذا العام، وهناك العديد من الانتقادات التي يُمكن توجيهها للمسلسل في كيفية تناوله السلبي لصورة المرأة، من ناحية ربطه المباشر بين جسد المرأة ومفاهيم الشرف والعِرض وغيرها، وتصويره باعتباره مكانًا يُختزل فيه مفهوم الشرف، بحيث يكون وقوع أو اشتباه وقوع صاحبته في المحظور كفيلًا بِجلب مفاهيم العار لها ولأبيها ولعائلتها ولسلالتها كلّها.
وفعلًا، فإنّ قضية ابنة البطل عبدو العربجي (باسم ياخور) التي حوكمت فيها محاكمة علنية، بعد التشكيك في فقدانها لعذريتها، وإقامتها لعلاقة جنسية مع العامل الأجير شومان (محمد قنوع)، هي قضية وقع فيها "العربجي" في فخّ حمْل ثيمة نظام الهيمنة الذكورية السائد في المجتمعات العربية، وهو النظام الذي يكون فيه جسد المرأة هاجسًا وحيدًا للمجتمع، يَخضع لرقابته المشدّدة، ويُصبح أي اعتداء على شرفه هو اعتداء على شرف مجتمع بأكمله.
يرى تيري إيغلتون في كتابه "عن الشرّ" أنّ هناك حتميتين تدفعان الإنسان إلى ارتكاب الأعمال الشريرة، هما حتمية البيئة، وحتمية الشخصية
وبعيدًا عن هذه القضية ودلالاتها السليبة عن المرأة، كانت هناك شخصيتان نسائيتان بارزتان في "العربجي" حضرتا بصفتهما محركتين أساسيتين للأحداث، ووجدتا باعتبارهما شخصيتين لهما أبعادهما المركّبة والمعقّدة، بحيث مثّلتا الشرّ الإنساني كما يجب أن يكون، بعيدًا عن التسطيح والتبسيط الذي يَحصل له عندما يتمّ تجسيده في شخصيات الشرّ المطلق، والتي يُمكن أن يُطلَق عليها شخصيات "ذات البُعد الواحد".
فبدور الداية (ديمة قندلفت)، ودرية خانم (نادين خوري)، تَحضران في "العربجي"، باعتبارهما شخصيتين نسائيتين معقدتين وصاحبتيْ ذكاء شديد، حتى أنّ المُشاهد لا يكتشف مكامن وحدود الشرّ التي فيهما إلا بعد مرور شوط من حلقات المسلسل، فدرية خانم مثلًا تَظهر في بداية حلقات المسلسل مدافعة عن حقّها وأبنائها في ميراث زوجها، فتقفْ في وجه العمّ الظالم المتغطرس شريف النشواتي (سلوم حداد)، الذي يُريد أن يستولي عليه، وبعد تتابع الحلقات وتواليها تبدأ جوانب الشرّ الخفية في نفسها بالتكشّف شيئًا فشيئًا، ليتبيّن بعدها أنّها في ظُلمها وتجبّرها تُشبه بشكل كبير العمّ الظالم الذي لم تقف في وجهه في البداية سوى لأنّه كان يقف في وجه مصلحتها.
أما بدور الداية فهيَ تَظهر في بداية أحداث المسلسل بصفة الشرّ الواضح والصريح، وذلك عندما تَشهد زورًا في قضية عذرية ابنة عبدو العربجي، وتؤكّد عندما يتمّ استدعائها لفحصها بأنّها ليست عذراء، لكنّ مع تتابع أحداث المسلسل، تبدأ جوانب الخير التي فيها بالتكشّف شيئًا فشيئًا، لتبدو في النهاية أمام المشاهد في صورتها الإنسانية الكاملة، كإنسانة فيها الخير والشرّ، والقبح والجمال، والسواد والبياض.
هاتان الشخصيتان النسائيتان في "العربجي" تُمثّلان الشرّ الإنساني كما يجب أن يكون، بعيدًا عن نظرية "القولبة" للبشر بمعنى وضعهم في قالبيْن اثنين لا ثالث لهما، إما أخيار أو أشرار، فالشرّ يحضر فيهما بصفته النسبية، فكلتا الشخصيتان تستدعيانه في لحظات الدفاع عن مصلحتهما العامة، دون أن ينفي ذلك وجود الخير في الكثير من أفعالهما الأخرى (مثل رفض بدور لأمر درية خانم بقتل ابنة عبدو العربجي الثانية، وقيام درية خانم بتوزيع الصدقات على المحتاجين والفقراء من أهل حارتها).
ملامح هاتين الشخصيتين تُذكّران بما أورده تيري إيغلتون في كتابه "عن الشرّ" من أنّ هناك حتميتين تدفعان الإنسان إلى ارتكاب الأعمال الشريرة، هما حتمية البيئة، وحتمية الشخصية، ويُقصَد بحتمية البيئة وجود دوافع في البيئة المحيطة بالإنسان وظروف اجتماعية تَدفع به إلى سلوك طرقه، أما حتمية الشخصية فتعني وجود مؤثّرات في شخصية الإنسان تتحكّم وتؤثّر في سلوكه وتدفعه إلى ارتكابه.
فبدور ودرية خانم في "العربجي" ارتكبتا العديد من الأعمال الشريرة وهما خاضعتان لحتمية البيئة والظروف التي أجبرتهما على الدفاع عن مصالحهما، كما كانتا خاضعتين لحتمية المؤثّرات الشخصية من حيث كونهما شخصيتين مصلحيتين ونفعيتيْن، تُحركّهما مصالحهما الشخصية، دون أن يعني ذلك اختفاء ملامح الخير فيهما بشكل قطعي ونهائي وكامِل.