توقف القصف، هدأت السماء، وبدأ الجرحى في البحث عن الشهداء، أو عن بقاياهم.
تصيرُ الحجارة أخف حين تستقرُ على صدر شهيد، والصور التي نراها ونتابعها لا تقول لنا شيئًا عن الحقيقة التي حدثت هُناك، في المساحة الصغيرة التي أعادت صياغة كلّ شيء، منذ السابع من أكتوبر العظيم.
عجزنا عن النطق وأهلنا في غزّة يقاومون العالم أجمع الذي يريدُ الخلاص منهم، عجزنا عن الكتابة، فلا يمكن لأي نصٍ أن يصف ما عاشوه، ولا أي مجلد يستطيع إيصال بشاعة جرائم المحتل وسفوره.
ماذا تفعل كلمات التضامن حين لا تستطيع دول كبرى إيقاف قذارة كيانٍ من غبار لا يعرفُ شيئًا عن أخلاق الحروب ولا يهمّه أحد؟
تغيرت اتجاهات ورموز البوصلة حين رأينا خروج الأحياء من بين الأنقاض رافعين شارة النصر، نغبطهم على هذا الإيمان متمنين أن نملكَ عُشرًا منه، نصغرُ كثيرًا أمام من فقد عائلته كاملة يخرجُ علينا حامدًا الله على ما أصابه فداءً للقدس وفلسطين
لكننا على الرغم من كل شيء، كتبنا، ووثقنا، وسجلنا، وصورنا، وحفظنا تفاصيل ما حدث ويحدث وسيحدث، لأننا على إيمانٍ كاملٍ بأن كل قطرة دم سالت هناك، لها ثمنٌ سيدفعها المُحتل قريبًا. وثقنا وحفظنا كي لا نترك للعدو متسعًا لنشر رواياته الكاذبة مثلما حدث عامي 1948 و1967.
هذه المرة تختلف عن كل ما سبق وعشناه، هذه المرّة اختارت المقاومة توقيت البداية، وستحدد هي فقط النهاية.
*
ما بعد السابع من أكتوبر، لا يشبه أي شيءٍ بعده، هذه حقيقةٌ قالها العديد، وكل شيء بعد السابع من أكتوبر سيتخذُ شكًلا جديدًا، سيعادُ النظر في كل شيء، وترتيبُ أولوياتنا قد اختلف كليًا منذ ذلك اليوم.
أسماء الشهداء الذين تجاوز عددهم العشرين ألفًا سنرددها في كل ذكرى، لهم حقٌ علينا جميعًا، وحدها الصدفة ربما، أو عدم توفر وسيلة نقل مناسبة أو قريبٌ بعيد يسكنُ هنا، هي التي جعلت أي فلسطيني يُقيمُ في مكانٍ آخر اليوم، فكان من المحتمل أن يقرر أسلافه اللجوء إلى غزّة وقت النكبة، وكان من الممكن أن يسكن في حي الرمال أو الشيخ رضوان، أو ربما بيت لاهيا أو جنوبًا في خانيونس أو رفح.
توقف القصف بشجاعة المقاومة وقوتها، وصبر أهل البلد وثباتهم.
تغيرت اتجاهات ورموز البوصلة حين رأينا خروج الأحياء من بين الأنقاض رافعين شارة النصر، نغبطهم على هذا الإيمان متمنين أن نملكَ عُشرًا منه، نصغرُ كثيرًا أمام من فقد عائلته كاملة يخرجُ علينا حامدًا الله على ما أصابه فداءً للقدس وفلسطين، نذوبُ في أنفسنا أمام هذا الصبر، ونبكي.
يحقُّ لأهل غزّة أن يعطوا دروسًا في كيف يكون الإيمان للعالم كلّه.
يحقُ لهم ما لا ولن يحق لغيرهم.
*
إن من أهم ما تغير بنا منذ السابع من أكتوبر هو نهاية تشتتنا اليومي، فلم يعد لتفاصيل حياتنا أهمية مقارنة بخبرٍ عاجل يفيدُ ببث كلمة مصورة لأبو عبيدة بعد قليل، ويتلاشى حضور أيّ شيء في حضرة الشهداء. اختفت الأشياء التي كنا نظن أنها مهمّة حين عشنا الأهم، وتوحدت أفكارنا ومشاعرنا نحو غزّة وأهلها ومقاومتها، كلٌ منا على قدرته، حاول ويحاول أن يقوم بما يستطيع ولو كان بسيطًا، ليقدم لهم يدًا معهم وليست عليهم، يحاول تقويتهم فيجدُ أنهم من تحت القصف، أقوى منه.
بعد معركة سيف القدس عام 2021 تساءلت في مقال نُشر هنا عن المطلوب فعله بعد هذا الانتصار، وعن إمكانيتنا في تغيير الرواية المزعومة التي يرددها الاحتلال، وما حدث خلال الأيام الخمسين السابقة، قد غيّر الكثير منها، وكسر العديد من الثوابت الكاذبة التي كانت معظم شعوب العالم تعتقدُ أنها الحقيقة.
سيسجل التاريخ أن مبادئ وقيم دول الشمال العالمي الذي أصدعنا بأنها الأكثر عدلًا وأخلاقية، هي مجردُ كذب ودعايات سقطت بفعل عمل مجموعة صغيرة تؤمن بحقها في تحرير أرضها، وصادقة تجاه غايتها.
*
المجدُ لشهدائنا الذي سقطوا في طريق التحرير الذي لم يعد طويلًا كما كنا نعتقد، نُقبّلُ رأسهم واحدًا واحدًا ونرفعُ لهم سلامًا معظمًا، هم فقط الذين بقوا أحياء حين مات العالم كلّه.
نعدكم أننا لن ننسى، ولن نغفر ولن نصالح.
*
توقف القصف مؤقتًا، وسيتوقفُ نهائيًا كما كل عدوان سابق، والاحتلال سيزول كما زال كل احتلال سابق، وسنحفرُ تاريخ بناء كل ما هدمه في مدينتنا على كل حجر، كما حفرنا النفق الذي رأينا في نهايته ضوء التحرير، فيه نسير، ومن فتحته سنخرجُ من جديد.