ألغت موسكو مبادرتها للسلام مع أوكرانيا التي دأبت أوساط روسية مؤيدة لاستمرار الحرب على وصفها بأنّها "مبادرة سخيةٌ للغاية بالنسبة إلى كييف"، في حين ترفضها أوكرانيا بوصفها إعلان استسلامٍ لتضمنها شروطًا بينها انسحاب القوات الأوكرانية من الحدود الإدارية لمنطقتي زاباروجيا وخيرسون، وكذلك من أراضي دونباس والاعتراف بها ضمن روسيا على المستوى الدولي.
ويشار إلى أنّ الإلغاء الروسي لمبادرة "السلام" أو "الاستسلام" كما يحلو للأوكرانيين توصيفها، يأتي بالتزامن مع نجاح القوات الأوكرانية في التوغل داخل الأراضي الروسية، وبالتحديد في منطقة كورسك.
وفي سياق تبرير سحب موسكو مبادرتها "للسلام"، علقت صحيفة "فيدوموستي" الروسية بالقول إن روسيا: "لن تجري حوارًا تحت الضغط مع أوكرانيا وقد أعادت النظر في سياستها تجاه قرار المفاوضات، وذلك ردا على غزو القوات الأوكرانية لمنطقة كورسك".
غيّر التوغل الأوكراني في الأراضي الروسية من قواعد اللعبة إلى حدٍّ كبير، كما تراجعت بموجبه فرص السلام
وأوضحت الصحيفة الروسية أن الكرملين والدبلوماسية الروسية: "أعادا النظر في اقتراح السلام الذي تقدم به الرئيس فلاديمير بوتين في حزيران/يونيو، والذي يعدّ عرضًا سخيًّا من طرفهم بالنسبة لسلطات كييف".
ومع ذلك يرى الخبراء، حسب ذات الصحيفة، أنه من الممكن العودة للمفاوضات بعد الانتهاء من العملية في كورسك، وإن كان هذا التحول، حسب الخبراء الروس: "لا يخدم مصالح القيادة الحالية لأوكرانيا فضلًا عن أنه يطيل أمد الصراع" وفق تصوّرهم.
مسار تفاوضي جديد
وفي هذا الصدد، يقول إيفان سكوريكوف، رئيس قسم أوكرانيا بمكتب التحقيقات الاتحادي الروسي: "إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صعّد الصراع من أجل تعطيل المفاوضات المزمعة، وإن غزو منطقة كورسك تم بالتنسيق مع الغرب من أجل الدخول في مسار مفاوضات جديدٍ حيث تضطر موسكو إلى تقديم تنازلاتٍ في حال فشلها في دحر الجيش الأوكراني".
وبحسب هذه القراءة التحليلية الروسية. فإن العرب: "يدعم الغزو الأوكراني بهدف تعطيل الجهود التي يبذلها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يرأس الاتحاد الأوروبي منذ بداية هذا العام"، وتضيف القراءة ذاتها أنّ: "بعض القوى في أوروبا بدأت في مناقشة المبادرة المجرية علنًا، وهو ما رفضته أميركا التي تحاول استخدام هجوم أوكرانيا من أجل زيادةٍ لاحقة في إمدادات الأسلحة والمساعدات المالية لكييف".
وتوقع رئيس "مركز دراسة الصراعات العسكرية والسياسية" الروسي أندريه كلينتسيفيتش أن تقوم روسيا: "بتطهير منطقة كورسك بحلول أيلول/ستبمبر المقبل، وأن يستمر الهجوم باتجاه دونيتسك في الوقت نفسه"، مضيفًا أن موسكو: "لم تبتلع الطعم إذ لم تقم بسحب جميع الاحتياطيات من الجبهة في دونباس وفي زاباروجيا وهذا أيضًا عامل مهم" وفق تعبيره.
قلب التوازنات
أبانت أوكرانيا عن شجاعةٍ "منقطعة النظير" عندما توغلت قواتها في كورسك الروسية، وتأتي هذه الخطوة الأوكرانية حسب صحيفة "التايمز" البريطانية تعبيرًا عن قناعة زيلينسكي بأن على بلاده أن تقاتل الروس بطريقة مختلفة، لكنها تأتي أيضًا وهذا هو الأهم بعد أن فهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شيئين مهمين في قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" الأخيرة في واشنطن، أولهما أن أوكرانيا ليست لديها أي فرصة في الانضمام إلى الحلف في وقتٍ قريب، وثانيهما أن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي رحب به باعتباره بطةً عرجاء، ليس له من الأمر شيء.
وبالتالي، فإنّ التوغل الذي قام به في روسيا على الرغم من أنه قصير الأمد، لكنه يظهر أن بلاده سئمت القيود التي يفرضها الغرب عليها.
ويرى مقال "التايمز" أن: "لم يكن من الجيد إبقاء أوكرانيا تحت الشروط الغربية لاستخدام المعدات المتبرع بها، بحيث لا تصعيد ولا إطلاق نار داخل الأراضي الروسية، وهي القيود التي يُقصَد بها منع الكرملين من أن يعلن أنه تحت تهديدٍ مباشر من الناتو، مما قد يتسبب في حربٍ عالمية ثالثة".
قدرة لافتة على الانتشار السريع
انتشرت ستة من أفضل الألوية الأوكرانية بشكلٍ سريع ولمدة أسبوع كامل عبر كورسك الروسية، حيث تم بالفعل نقل المشاة في مركبات دعم مدرعة قدمها الغرب، واستُخدمت طائرات سترايكر وعربات همفي الأميركية وماردر الألمانية، مع رغبةٍ أوكرانية في استخدام المزيد من المعدات الغربية مع استمرار التوغل.
وقد ترغب كييف، حسب "التايمز"، في استخدام صواريخ أتاكمز الأميركية الصنع لضرب المطارات في عمق روسيا. وترى الصحيفة البريطانية أن واشنطن قد تشير إلى موافقتها على ذلك، لكن دون إعطاء نعمٍ صريحة لكسب بعض النفوذ في محادثات السلام المستقبلية. وفي ذات الصدد، ليس من المستبعد أن تطلب كييف من الحكومة البريطانية رفع القيود المفروضة على صواريخ "ستورم شادو" لتستخدم لضرب الطرق وخطوط السكك الحديدية التي تجلب التعزيزات الروسية.
جرأة وتهور في آن واحد
وكان التعتيم المعلوماتي الذي أحاط بالتوغل ملحوظًا لدرء أي تدخلٍ غربي، وتجنب الأسئلة الصعبة حول الكيفية التي يخطط بها زيلينسكي لإنهاء المهمة، وإساءة تقدير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي كانت الرسالة إلى الغرب حسب قراءة التايمز: "شكرًا على الأسلحة والنصائح، ولكننا نحدد وتيرة حربنا بأنفسنا، ودعونا نعمل على هذا الأساس في حقبة ما بعد بايدن. أما الرسالة إلى بوتين فهي أن هذه الحرب ليست صفقة محسومة، وإذا كنت تعتقد أننا سوف ندخل في اتفاق سلام يدعمه المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب ويؤدي إلى تقسيم أوكرانيا، فأعد التفكير".
وقد تم تصميم مغامرة كورسك، حسب "التايمز"، للاستفادة من نقاط القوة التي يتمتع بها الجيش الأوكراني كالقدرة على الحركة والارتجال وسرعة اتخاذ القرار وإظهار انعدام الأمن لدى الروس، ويتلخص طموح زيلينسكي خلالها في إجبار بوتين على نقل القوات من شرقي أوكرانيا لحراسة كورسك، مما قد يؤدي إلى إحياء حركةٍ مناهضة للحرب بين الشباب، وتفجير فقاعة الرضا عن النفس.
ولأن الغرب ساعد في هيكلة الطريقة الأوكرانية في المعركة، فهو لا يستطيع، حسب الصحيفة البريطانية، أن يتجاهل التوغل باعتباره عملًا جريًئا لكنه متهورٌ في نهاية المطاف، مع أنه يسمح لزيلينسكي بأن يعوض سنوات حرب الخنادق في دونباس، التي أحبطت معنويات أمته والجهات المانحة لها ومؤيديها في الغرب، بنوع من الحرب الخاطفة.
وخلص قراءة "التايمز" إلى أن السرعة في الحرب تبهر ولكنها لن تكون كافيةً بسبب العمق الإستراتيجي الشاسع لروسيا، وبسبب استخدامها القاسي للقوة الساحقة عندما تكون تحت التهديد، وبالتالي فإن الحقيقة القاسية هي أن عملية كورسك لا يمكن أن تستمر لمدةٍ طويلة، ولكن تكرارها ممكن.