10-أكتوبر-2024
انتخابات تونس

أعلن فوز الرئيس قيس سعيد بولاية ثانية (المركز العربي)

أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، مساء الإثنين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2024، فوز المرشح قيس سعيد بولاية رئاسية ثانية بنسبة بلغت 90.69 في المئة من أصوات المقترعين، في أثناء جدلٍ واسع متعلّق بنسب المشاركة، ونزاهة الانتخابات، وشفافيتها، والإجراءات التي رافقتها، وتداعياتها المحتملة على المشهد السياسي التونسي.

تراجع نسب المشاركة

جرت الانتخابات، وفقًا لمقتضيات دستور 2022 الذي صاغه الرئيس سعيد، ومنح فيه نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، وحصانة من أي مساءلة أو محاسبة، مقابل تقليص صلاحيات البرلمان والقضاء وتحويل صفتهما من سلطة مستقلة إلى "وظيفة" تخضع للسلطة التنفيذية، وأُسندت مهمة الإشراف على العملية الانتخابية إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تولى سعيد تعيين رئيسها وجميع أعضائها بعد حلّ الهيئة السابقة المنتخبة من البرلمان.

شهد الاستفتاء على مشروع الدستور وانتخابات مجلس النواب والمجالس المحلية والمجلس الوطني للجهات والأقاليم التي جرت بين عامَي 2022 و2024 عزوفًا عن المشاركة غير مسبوق؛ إذ لم تتعدَّ نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور 27 في المئة بحسب النتائج الرسمية التي شككت فيها مؤسسات سبر آراء عديدة، في حين راوحت في دورتي انتخابات مجلس النواب بين 11 و7 في المئة بحسب النتائج التي أعلنتها هيئة الانتخابات. أما في انتخابات المجلس الوطني للجهات والأقاليم، فقد بلغت نسبة المشاركة المعلنة رسميًا 12 في المئة.

جرت الانتخابات، وفقًا لمقتضيات دستور 2022 الذي صاغه الرئيس سعيد، ومنح فيه نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، وحصانة من أي مساءلة أو محاسبة

لم يرافق العملية الانتخابية، في المناسبات الثلاث المذكورة، أي تفاعل سياسي يذكر، بسبب شروط الترشح والسياق السياسي والتشريعي الذي دارت فيه؛ إذ جرى التصويت وفقًا لنظام الأفراد بدلًا من نظام القوائم، وقاطعتها جميع الأحزاب ذات التأثير، ولم تنخرط فيها سوى حركة الشعب (حزب قومي عربي) وأحزاب أخرى صغيرة داعمة للمسار الذي أعلنه سعيد منذ الانقلاب على الدستور في 25 تموز/يوليو 2021، ولم يكن لها أي تمثيل في مجلس النواب السابق.

معركة الترشحات: إجراءات على المقاس

في 4 تموز/يوليو 2024، بدّد الرئيس سعيد الشكوك في الالتزام بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها حينما أصدر مرسومًا يقضي بدعوة الناخبين إلى التصويت في الانتخابات الرئاسية يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024. وشهدت فترة الترشحات تقديم 17 ملفًّا، من شخصيات مستقلة وأخرى محسوبة على مختلف التيارات السياسية، للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لم تقبل منها سوى ثلاثة ملفات: هي ملف سعيد، وملف الأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي (الداعمة للإجراءات التي اتخذها سعيد في إثر الانقلاب على الدستور)، وملف النائب السابق العياشي زمّال.

برّرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إسقاط ملفات الترشح الأخرى بعدم استكمال الوثائق المطلوبة، أو وجود خلل في جمع التزكيات، أو إشكال في السجل العدلي للمرشحين، أو حيازة جنسية ثانية غير الجنسية التونسية. فلجأ عدد من المرشحين، في إثر إسقاط ملفاتهم، إلى المحكمة الإدارية للطعن في قرار الهيئة، وفقًا لمقتضيات القانون الانتخابي، وقد قضت المحكمة ببطلان قرار الهيئة شكلًا ومضمونًا، وإعادة ثلاثة منهم إلى قائمة المرشحين المقبولين، نهائيًا، لخوض الانتخابات الرئاسية، وهم: عماد الدائمي (مدير مكتب الرئيس السابق منصف المرزوقي وناشط في مجال مكافحة الفساد)، وعبد اللطيف المكي (وزير سابق وقيادي منشق عن حركة النهضة)، ومنذر الزنايدي (وزير سابق في عهد الرئيس زين العابدين بن علي).

وعلى الرغم من أن القرارات الصادرة عن الجلسة العامة القضائية للمحكمة الإدارية "باتّة وغير قابلة للطّعن طبقًا لمقتضيات القانون الانتخابي"، فقد امتنعت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن تنفيذها، بدعوى أن "الهيئة أُعلمت بتلك الأحكام خارج الآجال القانونية"، و"بعد مصادقة مجلسها على القائمة النهائية للمترشحين"، وأنها "لم تقض بصفة واضحة وصريحة بإدراج المترشحين الطاعنين بالقائمة النهائية"، مؤكدة "تعذّر تنفيذ تلك الأحكام حتى ولو تم إعلام الهيئة بها في الآجال القانونية".

ولم يتوقف التجاذب مع المحكمة الإدارية عند رفض تنفيذ أحكامها الباتّة بإعادة ثلاثة مرشحين إلى التنافس الانتخابي. ففي 27 أيلول/سبتمبر 2024، أقرّ مجلس النواب، في جلسة "طارئة"، تعديلًا متعلقًا بقانون الانتخابات يسحب، بمقتضاه، اختصاص النظر في النزاعات الانتخابية من المحكمة الإدارية ويسنده إلى القضاء العدلي. وهو التعديل الذي أثار جدلًا قانونيًا وسياسيًا كبيرًا؛ فهذه أول مرة يجري فيها تعديل القانون الانتخابي بعد انطلاق الحملة الانتخابية؛ إذ اعتبر التعديل استباقًا من الرئيس سعيد لإمكانية طعن مرشحين مرفوضين في نتائج الانتخابات لدى المحكمة الإدارية التي أظهرت استقلالية، على عكس القضاء العدلي الذي تُوَجَّه إليه اتهامات بتلقي تعليمات من السلطة وإيداع مئات من السياسيين والصحافيين والمدونين والناشطين السجنَ منذ تموز/يوليو 2021.

توظيف القضاء العدلي

لم تقتصر التجاذبات بين السلطة والمعارضة على تأويل التعديلات التي أدخلت على التشريعات المتعلقة بالانتخابات ومقاصدها، ولا على التشكيك في استقلالية هيئة الانتخابات وحياد المؤسسات الإدارية، بل تعدّتها إلى أداء القضاء العدلي الذي تُوجَّه إليه اتهامات، منذ الانقلاب على الدستور في 25 تموز/يوليو 2021، بالخضوع لتعليمات السلطة التنفيذية.

وفي هذا السياق، أذنت النيابة العمومية بإثارة قضايا لدى المحاكم العدلية والقطب القضائي لمكافحة الإرهاب ضد عدد من المرشحين الذين أسقطت ملفاتهم؛ بمن فيهم جميع المرشحين الذين طعنوا في قرارات هيئة الانتخابات، الذين وجّهت إليهم اتهامات من قبيل "تكوين وفاق إرهابي"، و"التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، و"حمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض"، و"افتعال تزكيات"، و"التستر على جنسية ثانية"، وعقدت لبعض المرشحين ولأعضاء من حملاتهم الانتخابية جلسات محاكمة سريعة صدرت عنها أحكام بالسجن والمنع من الترشح مدى الحياة، من بينهم لطفي المرايحي (اعتقُل قبل تقديم ملفه)، ونزار الشعري، وليلى الهمامي، وعبد اللطيف المكي. ويُتوقع صدور أحكام غيابية ثقيلة في حق كل من منذر الزنايدي وعماد الدايمي اللذين يصنفهما بعض المتابعين "مرشحين جديين".

لم تقتصر الملاحقات القضائية والأمنية على المرشحين الذين أسقطت ملفاتهم، فقد داهمت قوات الأمن منزل المرشح زمّال، في فجر 2 أيلول/سبتمبر 2024، واعتقلته بتهمة "تزوير التزكيات"، لتُثار، لاحقًا، عشرات القضايا ضده في محاكم مختلفة من البلاد، تلتها جلسات سريعة صدرت عنها أحكام ثقيلة بالسجن ضده وضد ناشطين في حملته الانتخابية، وحالت دون قيامه بحملة انتخابية.

جدل المشاركة والمقاطعة

بدا جليًّا، خلال الأسابيع التي سبقت يوم الاقتراع، أنه لا أساس للرهان على هذه الانتخابات لإحداث تغيير في المشهد السياسي؛ إذ أدّت الملاحقات الأمنية والقضائية للمرشحين، ورفض تنفيذ أحكام القضاء الإداري، وتوظيف أجهزة الدولة، وتغيير القوانين بعد انطلاق الحملة الانتخابية، وإقصاء جل المرشحين المحسوبين على تيارات سياسية ذات تمثيلية، واعتقال أحد المرشحين المقبولين، إلى تضييق قائمة المرشحين إلى ثلاثة، ثم اقتصار الحملة الانتخابية، بعد سجن زمّال، على مرشحين اثنين فحسب أحدهما الرئيس سعيد، أمّا الآخر فهو المغزاوي مرشح حركة الشعب المساندة لمسار 25 تموز/يوليو 2021. ومع ذلك، انقسمت مكونات المعارضة من أحزاب وشخصيات وناشطين سياسيين، بين خيارَي المشاركة والمقاطعة.

ذهب دعاة مقاطعة التصويت إلى أن النتيجة باتت محسومة لمصلحة الرئيس سعيد، بسبب غياب شروط التنافس النزيه في ظل هيمنته على مؤسسات الدولة بما فيها هيئة الانتخابات التي عيّن رئيسها وأعضاءها، وتطويعها لمصلحته، واستباقه أي مفاجآت بترسانة تشريعية صيغت على مقاسه، وتوظيف الإعلام للترويج لخطابه، ومنع المراقبين المحليين والدوليين من القيام بمهماتهم؛ ما يفقد العملية أدنى شروط الشفافية والنزاهة.

أما دعاة المشاركة، وبعضهم من الناشطين في الأحزاب التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات، فقد برّروا خيارهم بأن الموعد الانتخابي فرصة لحشد الرأي العام من أجل فرض التغيير عبر التصويت للمرشح السجين زمّال، باعتباره الخيار الممكن، أو تهيئة المشهد لمسار احتجاجي في إثر الانتخابات؛ في حال لجوء السلطة القائمة إلى التلاعب الواسع بنتائج الاقتراع وتزويرها، أو إلغاء أصوات انتخابية للمرشح زمّال.

جدل النتائج

أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مساء 7 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أن عدد المشاركين في التصويت بلغ 2808548؛ ما يعادل 28.8 في المئة من مجموع الناخبين المسجلين البالغ 9753217؛ وهي نسبة أعلى مما سُجّل في انتخابات مجلس النواب والمجالس المحلية ومجلس الجهات والأقاليم، لكنها أدنى كثيرًا من النسب المسجلة في الانتخابات الرئاسية عامَي 2014 (64 في المئة) و2019 (45 في المئة).

حصل الرئيس سعيد، بحسب النتائج الأولية المعلنة من الهيئة، على 90.69 في المئة من أصوات المقترعين، تلاه المرشح السجين زمّال بنسبة 7.35 في المئة، بينما حصل المغزاوي على 1.97 في المئة. وبناءً على هذه النتائج، حسم سعيد السباق من الدور الأول.

مقارنةً بنتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، تراجع عدد المصوتين لسعيد بنسبة 12.2 في المئة، على الرغم من فوزه من الدور الأول في الانتخابات الأخيرة؛ إذ إنه حصل حينئذ على 2777931 صوتًا؛ أي ما يعادل 72.71 في المئة من مجموع أصوات المقترعين.

أما بخصوص نتائج المرشحين الآخرين، فيظهر الفارق جليًّا بين ما حصل عليه كل من زمّال والمغزاوي، على الرغم من حداثة دخول الأول المشهدَ السياسي وأقدمية الثاني في الحياة العامة؛ فهو قد كان قياديًا في الاتحاد العام التونسي للشغل، ونقيبًا لأساتذة التعليم الثانوي، ثم أمينًا عامًّا لحركة الشعب، ونائبًا في البرلمان السابق. ويبدو أن جل المعارضين الذين تبنّوا خيار المشاركة صوتوا لفائدة زمّال؛ إما اقتناعًا ببرنامجه المعلن بخصوص "طي الصفحة" ووعوده بالإفراج عن السجناء السياسيين وإلغاء المراسيم التي أصدرها سعيد في حال فوزه، وإما من باب "التصويت العقابي" لسعيد، والمغزاوي الذي كان أحد أبرز الداعمين للإجراءات التي اتخذها سعيد منذ الانقلاب على الدستور.

ما بعد الانتخابات

لم يهتم الرئيس سعيد، سابقًا، بالانتقادات ولا بنسب المشاركة المتدنية في مختلف المناسبات الانتخابية التي جرت في عهده، ولا ينتظر كذلك أن تؤثّر الانتقادات المرتبطة بالسياق السياسي والتشريعي والأمني والقضائي، الذي جرى فيه المسار الانتخابي الرئاسي، في مواقفه وهو يدخل العهدة الجديدة معززًا بما يراه تفويضًا شعبيًّا للمضي قدمًا في المسار الذي اختطّه لنفسه، والذي يقود إلى ترسيخ حكمٍ فردي سلطوي.

لم يهتم الرئيس سعيد، سابقًا، بالانتقادات ولا بنسب المشاركة المتدنية في مختلف المناسبات الانتخابية التي جرت في عهده

في المقابل، تدخل المعارضة المرحلة الجديدة من دون مراجعات تذكر لأدائها، أو محاولات لتعديل مواقفها، والتخفيف من تجاذباتها الأيديولوجية التي تعرقل الالتقاء على الحد الأدنى من برنامج سياسي مرحلي للتعامل مع الإجراءات المنتظرة في العهدة الرئاسية الجديدة، والتي قد تكون أشد من الإجراءات المتخذة منذ 25 تموز/يوليو 2021، وقد تشمل حلّ بعض الأحزاب والجمعيات، وتحجيم الاتحاد العام التونسي للشغل، وفرض مزيد من القيود على الحقوق والحريات. غير أن ذلك لا ينفي ظهور مؤشرات دالّة على بداية تكتّل بعض القوى السياسية والمدنية التي تمكنت من حشد أعداد كبيرة من المتظاهرين وتنظيم نشاطات احتجاجية، خلال الأسابيع الأخيرة، تحت مسمى "الشبكة التونسية للحقوق والحريات" التي يُنتظر أن تنظم مزيدًا من الاحتجاجات، مستقبلًا، بالنظر إلى رفض بعض مكوناتها رفضًا مسبقًا الاعتراف بشرعية الانتخابات ونتائجها.

أثبتت النتائج المعلنة أن نسبة العزوف عن التصويت تمثّل أكثر من 70 في المئة من مجموع المسجلين، وأن نسبة مشاركة الفئة العمرية الشابة (18-35 سنة) في التصويت لم تتجاوز 6 في المئة؛ ما يشير إلى عدم اهتمام الجزء الأكبر من التونسيين بمنح الشرعية للعملية الانتخابية، في ظروف اتّسمت بتردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي مثّل القادح الأهم في المحطات الاحتجاجية الكبرى منذ الاستقلال؛ بما فيها الثورة التي أطاحت حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في كانون الثاني/يناير 2011.

خاتمة

انتهى المسار الانتخابي الرئاسي في تونس، بلا مفاجآت، بالإعلان عن فوز الرئيس قيس سعيد بنسبة 90.69 في المئة من أصوات الناخبين، غير أن تداعياته تظل قائمة ومؤثّرة في المشهد التونسي لاحقًا. فالرئيس الذي خاض السباق في مواجهة مرشحَين اثنَين؛ أحدهما سجين والآخر من أشدّ داعمي إجراءات 25 تموز/يوليو، يظن أنه حصل على تفويض جديد لمواصلة مساره ضد معارضيه الذين يَصِمُهم بالخيانة والعمالة والولاء للخارج، في حين تظل قدرة المعارضة على إحداث تغيير في موازين القوى محدودة بسبب بقائها رهينة لتجاذباتها الأيديولوجية؛ ما يفتح مجالًا لتحرك الشارع. وعلى الرغم من عدم ظهور مؤشرات قوية في هذا الاتجاه حاليًّا، فإن هذا الاحتمال يظل قائمًا ما دامت السلطة - وسعيد تحديدًا - قاصرة عن معالجة الأزمات المعيشية ببرنامج إصلاحي واقعي، بعيدًا عن الخطاب الشعبوي القائم على تهميش المعارضين وتحميلهم مسؤولية الفشل وطرح وعود لا تجد طريقها إلى الإنجاز.