08-يوليو-2024
كير ستارمر في أول اجتماع له كرئيس وزراء

(AP) كانت الانتخابات اقتراعًا على فشل المحافظين أكثر منها تأييدًا لحزب العمال

شهدت بريطانيا في 4 تموز/ يوليو 2024 انتخابات عامة مبكرة دعا إليها، في 22 أيار/ مايو الماضي، رئيس الوزراء، زعيم حزب المحافظين السابق، ريشي سوناك، تجنّبًا لمحاولة إطاحته من داخل حزبه بعد أدائه المتواضع الذي أفقد الرأي العام البريطاني الثقة كليًا بحكم المحافظين المستمر منذ عام 2010.

وقد شهد عهد المحافظين الطويل استفتاءين مهمين؛ الأول على استقلال إسكتلندا، في حين أسفر الثاني عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، إلى جانب سلسلة من الأزمات أبرزها تفشي وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) والحرب في أوكرانيا، إضافة إلى مجموعة من الأحداث المثيرة للجدل التي اهتزت على وقعها حكومة المحافظين، والتي يرقى بعضها إلى مستوى "الفضائح"، في عهد رئيسَي الوزراء السابقين بوريس جونسون وليز تراوس، وصولًا إلى سوناك الذي شهدت بريطانيا في عهده أسوأ أزمة تضخّم مالي منذ عقود. وقد جاءت نتائج الانتخابات متوافقة مع التوقعات، إذ فاز حزب العمال بأغلبية ساحقة (411 مقعدًا من أصل 650 مقعدًا)، في حين مُنيَ المحافظون بأسوأ هزيمة في تاريخهم.

النتائج وتوزيع المقاعد

كان إعلان سوناك عن إجراء انتخابات عامة مفاجئًا للشارع وللأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا، وحتى للمحافظين أنفسهم، فلم يكن الوقت كافيًا للاستعداد لحملة انتخابية صعبة، في ضوء الخسارة الكبيرة التي مُنيَ بها المحافظون في الانتخابات المحلية التي جرت في 2 أيار/ مايو الماضي. ويبدو أن تفاقم الصراعات داخل حزبه، والتي أدت إلى تغيير أربعة رؤساء حكومة في ثلاث سنوات، دفعته إلى "الهروب إلى الأمام" وتقديم موعد الانتخابات.

عبرت نتائج الانتخابات عن الرغبة في التغيير، ومعاقبة حزب المحافظين بعد سنوات مضطربة تلت خروج بريطانيا في عهده من الاتحاد الأوروبي

بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات نحو 60 في المئة، وهي الأقل منذ عام 2001 (59.4 في المئة). فاز فيها حزب العمال بأغلبية ساحقة بحصوله على 411 مقعدًا، بزيادة 209 مقاعد على إجمالي المقاعد التي حصل عليها في انتخابات عام 2019، في حين حصل المحافظون على 121 مقعدًا بخسارة 244 مقعدًا، في واحدة من أسوأ النتائج لهم منذ أكثر من قرن. وتُعدّ نتائج العمال الأفضل منذ عام 1997، عندما فاز رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بـ 417 مقعدًا.

وحصل الديمقراطيون الليبراليون على 72 مقعدًا، مقارنة بـ 11 مقعدًا في انتخابات 2019، بينما تراجعت مقاعد الحزب الوطني الإسكتلندي إلى 9 مقاعد، بخسارته 39 مقعدًا. ودخل حزب "الإصلاح" اليميني المتطرف، بزعامة نايجل فراج، البرلمان أول مرة بحصوله على 5 مقاعد (أقل مما توقعت الاستطلاعات)، في حين فاز حزب الخضر في إنكلترا وويلز بـ 4 مقاعد.

كان لافتًا للانتباه أنه على الرغم من حصول العمال على أغلبية مطلقة من المقاعد، فإن نسبة الأصوات التي فازوا بها لم تتجاوز 34 في المئة من مجموع المقترعين، لأن النظام الانتخابي البريطاني يقوم على مبدأ أن الفائز يحصل على كل شيء Winner Takes All. وهذه النسبة تقارب ما حصل عليه العمال في عهد زعيمهم السابق جيرمي كوربن عام 2019.

وتُعدّ الفجوة بين حصة العمال من إجمالي الأصوات، وحصتهم من المقاعد البرلمانية التي فازوا بها الأكثر تفاوتًا من بين جميع الانتخابات منذ عام 1918. ومع أن فوز العمال بـ 411 مقعدًا يضمن لهم أغلبية برلمانية قوية تسمح لهم بتمرير أجندتهم في البرلمان من دون صعوبات، فإن تدنّي نسبة الأصوات التي حصلوا عليها تجعل حصة حكومة الحزب من الأصوات هي الأدنى التي حصلت عليها أيّ حكومة أغلبية من حزب واحد في تاريخ المملكة المتحدة، إذ توزعت الأصوات على بقية الأحزاب، وشهدت الأحزاب الصغيرة والمرشحون المستقلون ارتفاعًا كبيرًا في دعمهم الشعبي.

وقد حقق الديمقراطيون الليبراليون وحزب الإصلاح وحزب الخضر تقدمًا لافتًا. فقد حصل الحزب الثالث تقليديًا في بريطانيا (الديمقراطيون الليبراليون) على زيادة كبيرة في عدد المقاعد، فارتفعت حصته من 11 مقعدًا فقط فاز بها في الانتخابات العامة عام 2019 إلى 72 مقعدًا. وفاز حزب الإصلاح اليميني المتطرف بـ 5 مقاعد، ودخل البرلمان أول مرة، لكنه حصل في المقابل على 14 في المئة من أصوات الناخبين؛ ما جعله ثالث أكبر حزب من حيث الكتلة الناخبة بعد العمال والمحافظين وقبل الديمقراطيين الليبراليين. وقد أدى ذلك إلى تقسيم أصوات اليمين، وساهم في خسارة المحافظين.

أما في إسكتلندا، فقد مُنيَ الحزب الوطني الإسكتلندي بخسارة كبيرة؛ إذ انخفض عدد مقاعده إلى 9 فقط من 48 مقعدًا في عام 2019، وذلك نتيجة مجموعة من الفضائح التي ألمّت به في الفترة الأخيرة، وأصبح حزب "شين فين" أكبر حزب في إيرلندا الشمالية، حيث فاز بـ 7 مقاعد من أصل 18 مقعدًا مخصصة لإيرلندا الشمالية.

وقد أسفرت الانتخابات أيضًا عن حصول حزب العمال والمحافظين على أدنى حصة مجتمعة من الأصوات منذ عام 1945. وكان ذلك بفعل التأثير المشترك للتقدم الذي أحرزه الديمقراطيون الليبراليون (12 في المئة)، والأصوات التي حصل عليها حزب الإصلاح (14 في المئة)، وزيادة الأصوات لحزب الخضر (7 في المئة)، فضلًا عن تصويتٍ أعلى من المعتاد لصالح المستقلين من بين جمهور حزب العمال.

وقد أعطى ذلك مؤشرًا على تشرذم الأصوات بين الأحزاب وترهل النظام الانتخابي التقليدي في بريطانيا القائم على الثنائية الحزبية. وكان عزوف الناخب الإسكتلندي عن التصويت لصالح الحزب الوطني الإسكتلندي بمنزلة تحوّلٍ بعيدًا عن الشعارات التي رفعها الحزب بخصوص الاستقلال، وتركيزٍ أكبر على القضايا الاقتصادية والمعيشية. وقد بنى الحزب الوطني الإسكتلندي حملته الانتخابية على فكرة مؤداها أنه إذا فاز بأغلبية مقاعد إسكتلندا البالغ عددها 57 مقعدًا، فسيكون لديه التفويض لإعادة التفاوض بشأن استفتاء ثانٍ على الاستقلال. لكن هزيمته الساحقة أنهت كل حديث عن هذا الموضوع.

أبرز العوامل المؤثرة في النتائج

يمكن تحديد جملة من العوامل التي أسهمت في تحديد نتائج الانتخابات، وشكّلت بدورها قضايا رئيسة حكمت سلوك الناخب البريطاني فيها، أهمها:

  • الأزمة الاقتصادية وسوء الخدمات العامة: شكّلت الأزمة الاقتصادية محورًا أساسيًا في الانتخابات، حيث عانى البريطانيون خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصًا بعد أزمة كورونا (2019-2021)، ارتفاعًا غير مسبوق في تكاليف المعيشة. وقد تولّى المحافظون السلطة في ذروة الأزمة المالية العالمية، وفازوا بثلاثة انتخابات منذ ذلك الحين. لكنّ هذه الفترة تميزت بالركود الاقتصادي، وتدهور الخدمات العامة، وسلسلة من الأزمات السياسية، التي جعلت المحافظين هدفًا سهلًا للانتقادات من اليسار واليمين على السواء. ويحمّل الكثير من البريطانيين حكومة المحافظين المسؤولية عن المشاكل الخدمية التي تواجههم، بدءًا من أزمة القطارات، التي تمثّل عصب الحياة الاقتصادية في بريطانيا، والتي تعرضت لشلل متكرر، إلى أزمة التضخم ونقص الإسكان الاجتماعي وأزمة القطاع الصحي، حيث تعاني المستشفيات التابعة لهيئة الخدمات الصحية البريطانية NHS، التي تقدّم الرعاية الصحية المجانية للمجتمع، تضخمًا في قوائم الانتظار الطويلة، فضلًا عن إضراب الأطباء المتكرر بسبب الرواتب المنخفضة.
  • ارتباط سمعة حزب المحافظين وحكومته على نحو متزايد بالفضائح التي تفجّرت في عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، وخليفته ليز تراوس التي استمرت حكومتها 44 يومًا فقط، والتي تسببت في فوضى للاقتصاد والأسواق المالية. وكانت آخر الفضائح التي تعرّض لها المحافظون هي تلك المتعلقة بالرهانات، حيث جرى الكشف في حزيران/ يونيو الماضي عن قيام بعض أعضاء الحزب، بمن فيهم مقربون من سوناك، بالمشاركة في رهانات على تحديد موعد الانتخابات العامة، ما دفع العديد منهم إلى الاستقالة أو الانسحاب.
  • شكّل التعامل مع أزمة الهجرة عاملًا آخر مهمًا في تدهور الثقة بحكم المحافظين، فقد أثارت خطط الحزب المثيرة للجدل، والتي تقضي بإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا حتى الانتهاء من النظر في طلبات لجوئهم، انتقادات واسعة، باعتبارها تنتهك القانون الدولي، وغير إنسانية، فضلًا عن تكلفتها المادية الباهظة. في المقابل، قاد اليمين المتطرف المعادي للهجرة حملة أعطت انطباعًا أن الحكومة فقدت السيطرة على الحدود مع استمرار تدفّق قوارب المهاجرين عبر القنال الإنكليزي.
  • تزايد الصراعات والتناقضات داخل حزب المحافظين: فمنذ بدء الاستعداد لإجراء انتخابات عامة مبكرة، واجه سوناك أزمة داخل حزب المحافظين الذي يتزعمه، إذ انسحب عدد كبير من الأعضاء الفاعلين في دوائر انتخابية مختلفة من الترشح للانتخابات في أكبر انسحاب منذ عام 1997، وذلك بسبب تقديم موعد الانتخابات، حيث عبّر بعض المنسحبين عن عدم استعدادهم للدخول في الحملة الانتخابية بسبب قصر الفترة الزمنية، في حين انسحب آخرون بسبب عدم قدرتهم على توفير التمويل اللازم لإدارة حملاتهم. وقد بلغ عدد النواب المنسحبين من السباق الانتخابي 78، متخطّيًا الرقم القياسي في "حقبة الخروج التاريخي" البالغ 72 نائبًا قبل الانتخابات العامة في عام 1997. إضافة إلى ذلك، يعاني حزب المحافظين مشكلةً في القيادة، حيث تغيّرت قيادته أربع مرات خلال ثلاث سنوات، كما أنه تلقّى ضربة قاسية بحلوله ثالثًا بعد حزب العمال، والديمقراطيين الليبراليين، في الانتخابات المحلية التي جرت في أيار/ مايو 2024، فضلًا عن ضعف الثقة المتزايدة لدى الناخبين بأداء الحكومة؛ حيث عبّرت أغلبية المشاركين (84 في المئة)، في استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "إبسوس"، في نيسان/ أبريل الماضي، عن عدم رضاها عن الطريقة التي تدير بها الحكومة البلاد.

خاتمة

حملت نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في بريطانيا هزيمة غير مسبوقة لحزب المحافظين، بعد 14 عامًا قضاها في الحكم، وقد خسر الحزب ثلثَي المقاعد التي كانت في حوزته، ما دفع سوناك إلى الاستقالة من زعامته تاركًا وراءه حزبًا ممزقًا. وكانت الانتخابات، بحسب توزع الأصوات، اقتراعًا على فشل المحافظين أكثر منها تأييدًا لحزب العمال، الذي ارتفعت نسبة التأييد له على نحو متواضع (34 في المئة من الأصوات).

وقد عبرت نتائج الانتخابات عن الرغبة في التغيير، ومعاقبة حزب المحافظين بعد سنوات مضطربة تلت خروج بريطانيا في عهده من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى سوء إدارته أزمات كورونا والهجرة والتضخم. ولئن كان الانتصار الساحق الذي حققه حزب العمال الذي ينتمي إلى يسار الوسط في الانتخابات البريطانية يتناقض مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، فإن، في الواقع، ثمة رابحًا إضافيًا من تلاشي قوة المحافظين في بريطانيا، هو حزب الإصلاح، بقيادة زعيمه الشعبوي نايجل فاراج الذي دخل البرلمان أول مرة بعد فوزه بـ 5 مقاعد وحلوله ثالثًا في نسب التصويت بحصوله على 14 في المئة من أصوات المقترعين.