روى صديق ستيني حكايته الكئيبة مع ذلك المرض الذي يستحق صفته الذائعة "الخبيث" (يجدر بنا ألا ننطق اسمه فهذا نذير شؤم). قال: "من بين رهاباتي العديدة كان رهاب هذا المرض هو الأكثر طغيانًا على روحي. عندما كنت صغيرًا اعتدت أن أتخيل مقايضة ما مع قوة علوية بيدها زمام هذه الأمور، وكنت مستعدًا لتقديم أي تضحية (لم أتوصل إلى تحديدها مرة) مقابل أن أبقى سليمًا معافى تمامًا، وبعد أن تقدم بي العمر، وصرت أعلم أن الحياة ليست كريمة إلى حد أن تعفيني من أي مرض على الإطلاق، أصبحت مقايضتي المتخيلة متهاودة أكثر. بت أقبل أن تخيرني القوة العلوية إياها بين بدائل كثيرة عن المرض العضال، فأختار، مثلًا، أن أكون مريض قلب أو شرايين، أو روماتيزم، أو قرحة معدية، قولون...
لطالما حيرني فضول ممزوج بالرعب إزاء ضحايا المرض المرعب، كيف يتقبلون مصيرهم؟ كيف يمضون أيامهم وسكين قاطع لا يرحم موضوع فوق رقابهم؟
لطالما حيرني فضول ممزوج بالرعب إزاء ضحايا المرض المرعب، كيف يتقبلون مصيرهم؟ كيف يمضون أيامهم وسكين قاطع لا يرحم موضوع فوق رقابهم؟ يأكلون ويشربون ويتحادثون، وربما يخططون لغد ما، وهم في الحقيقة مجرد محكومين بموت قريب مؤكد؟!".
وقال: "منذ أشهر شعرت بألم في أحشائي. قال الطبيب إنه أمر بسيط ولكن ثمة إشارة صغيرة تستدعي مزيدًا من الطمأنينة. في المشفى قالوا: نعم ثمة اشتباه ولكن هذا لا يعني أنك مصاب بما تخاف منه، بل أنت مجرد مشتبه. ثم قالوا: بالفعل تأكد الاشتباه يوجد شيء غير سليم ولكنه من نوع قابل للعلاج، قبل أن يخبروني بأن علي إجراء استئصال ما سهل ونتائجه شبه مضمونة، ليعودوا مستدركين بأن الوقت قد تأخر قليلًا ولكن هذا لا يعني أن الأمر ميؤوس منه فثمة طرق أخرى.. هكذا من فحص إلى فحص ومن تحليل إلى آخر، رحت أهبط درجة فدرجة فدرجة.. إلى أن وصلت إلى الدرك الذي يجمعني بمن كانوا يثيرون فضولي الممزوج بالرعب. لقد صرت أعرف كيف وصلوا إلى هنا، وكيف يمضون، فأنا مثلهم أمضي وسكين قاطع لا يرحم موضوع فوق رقبتي.. تسألني عن شعوري الآن؟ أستطيع أن أؤلف مجلدات في ذلك".
كان مريضًا وكنت أحبه، ورغبت أن أفهمه بأنه لا يزال ندًا موقرًا، فقلت له: "حكايتك مثيرة ولكنها ليست أصيلة، فهي تكرار شبه حرفي لقصة دينو بوتزاتي التي عنوانها (سبعة طوابق)". أقسم أنه لم يسبق له أن قرأ هذه القصة أو حتى سمع بها، وكنت أعرف أنه صادق.
ربما يكون التصور الأبسط، والأقدم كذلك، عن الأدب هو ذلك الذي يراه محاكاة للواقع. ولا نزال حتى الآن نمتدح، بكثير من الدهشة، رواية أو قصة بأنها تتقن النسج على منوال الحياة.. الحياة الواقعية، وننسى أن الأكثر مدعاة للدهشة هو ما يحدث أحيانًا إذ يكون الأمر معكوسًا: أن تقوم الحياة بمحاكاة الأدب، أن يقوم الواقع بنسج أحداثه على منوال رواية أو قصة ما.
ولكن ليست كل القصص والروايات تصلح لأن تُقلد وتُحاكى.. فقط تلك التي تنفذ إلى عمق الوضع البشري، وتكون آلات سبر دقيقة للوجود الإنساني.
حكاية أخرى: قرأ أستاذ في الاقتصاد، مغرم بالأدب، قصة بورخيس "النمور الزرقاء"، ولكن التجربة كانت محبطة، فالقصة بدت له عويصة وغير مفهومة، وفوق ذلك متحذلقة بعض الشيء.
تدور قصة بورخيس حول عالم زار قرية هندية للبحث عن لغز النمور الزرقاء، ليكتشف أن النمور هذه ما هي إلا حصى زرقاء عجائبية، تتكاثر فجأة وتختفي فجأة وتعود إلى الظهور فجأة، متحدية عمليات الجمع والطرح والقسمة بل وكل قوانين الرياضيات. ولأن الرجل عالم لا يؤمن إلا بالمنطق والمنهج الصارم والقوانين الراسخة، فقد أنهكته الحصى وكادت أن توصله إلى انهيار نفسي، ثم يحدث أن يلتقي بشحاذ أعمى في جامع القرية فيتخلى له عن كل ما يملك من حصى، مزيحًا عن كاهله هذا العبء الذي لا يحتمل.
يكشف الأدب لنا أشياء خفية عن مشاعرنا وسلوكنا واستجاباتنا وانحيازاتنا.. بتبسيط أكثر نقول: إنه يفسر لنا كثيرًا من شؤون الحياة. ولكن أليس ممتعًا أيضًا أن تقوم الحياة نفسها بتفسير الأدب!
يقول أستاذ الاقتصاد: "بعد سنوات من قراءتي هذه القصة، وكنت أظن أني طردتها من عقلي تمامًا، حدث لي أمر غريب إذ قابلت رجلًا يدعي امتلاك قدرات خارقة، ولأني رجل علم (كما أزعم أنا على الأقل) فقد سخرت منه بشدة، ولكن للمفاجأة فقد أثبت لي الرجل بعضًا من ادعاءاته. بقيت لأيام طويلة أشعر بغم شديد وقلق معذب، ثم فجأة تذكرت قصة النمور الزرقاء، والمفاجأة الأكبر أنني سرعات ما فهمتها في لحظة إلهام خاطفة".
نقول، عادة، إن الأدب يكشف لنا أشياء خفية عن مشاعرنا وسلوكنا واستجاباتنا وانحيازاتنا.. بتبسيط أكثر نقول: إنه يفسر لنا كثيرًا من شؤون الحياة. ولكن أليس ممتعًا أيضًا أن تقوم الحياة نفسها بتفسير الأدب!
حكاية شخصية: حلمت، منذ أشهر، بأبي يقودني من يدي إلى يومي الأول من سنتي الأولى في مدرستي الابتدائية. وبعد أن أمضيت نهاري هناك قفلت عائدًا إلى البيت، وعلى الطريق صادفت زوجتي وابنيَّ!. تعرفون طبعًا أن حلمي هذا مجرد اقتباس من قصة نجيب محفوظ الشهيرة "نصف يوم".
هكذا فالأدب لا يستشرف لنا الوقائع وحسب، بل ويصنع بعضًا من أحلامنا أيضًا.