السّؤال الذي يُغرِقُ الشّاعر في كلّ فرصة، وفي كلّ مرّة تظهر شاعريّته فيها: ماذا سيمنحكَ الشّعر؟ هو محضُ سؤال صغير وعفويّ حتى لو في إيقاعه اللّفظي والسّمعي. لو أردنا أن نسأل عن إيقاعه الجوهري، هل هو بحجم كلمات ثلاث؟
ونردِفُ أيضًا هل هناك مِنحة ما من الشعر؟ وإن وجدت فكيف؟ هل مطلوب من الشعر أن يمنح؟ ما هي الضّرورة التي تقود للسّؤال عما قد يمنحنا الشعرُ إيّاه؟ ما مصير الممكن والأكيد في جدلية العائد في الشعر؟ ما هي مضامين الشّكل التي يحتكم لها السباق بين الحياة والشعر؟ وهل هناك سباق أصلًا؟
قد يكون للغة صوتٌ، لكنّ لن يكون للصوت لغة، لأنَّ الصوتَ هو متمم ومُكمّل للجزئين من مشبه ومشبه به، لكنَّ اللغة هي الأصل لمنطق الكائنات اللساني والتركيبي من حيث هو منطق، ومن حيث هو لصيق للكائنات
الشعرَ كالروح تشبيه بسيط ومألوف، لكنَّ المُشترَك بين المُفردتين أعمق بكثير من جزئية المُشبَّه والمُشبَّه به، إنهما يتشابهان، وربّما يذوبان في بعضهما بعضًا. وبعض ما يُعرَف عنهما من استقصاءٍ عميق حول المُشترَك المُراد. كلاهُما سائليّ ومُبلّل، ولا يستطيعان الفكاك من كونهما كذلك. كلاهما بالغان في الزمنيّة من حيث شكلها الأزليّ مفتوح التّفاصيل، والنتائج، والغرق اللغويّ إلى حين الفكفكة الشّاملة لمتروك كلّ كلمة منهما في وعي سامعهما ومُبصِرهما ولامسهما. لا يفعلُ الثلاثة مُشترَكات غير الشّاعر، الّذي بدأ روحًا، وصار أبجدًا، وانتهى مستقِرًّا شاعرًا. التشبيه هنا من أصل الطّرح، بمعنى أنَّك تُشبّه الطّائر بالسّماء أو السّماء بالطائر.
قد يكون للغة صوتٌ هنا، لكنّ لن يكون للصوت لغة، لأنَّ الصوتَ هو متمم ومُكمّل للجزئين من مشبه ومشبه به، لكنَّ اللغة هي الأصل لمنطق الكائنات اللساني والتركيبي من حيث هو منطق، ومن حيث هو لصيق للكائنات.
لا تغيبُ عن ذهن الملامِس للشعر، أو المُلتحِم به أو المُشتبِك معه، علاقة التشابُك الحميم بين الروح والشعر كفكرتيّن، بمعنى أنَّ الفكرتيّن في لقاء دائم، أحيانًا يكون اللقاء تقابُلي، وأخرى ترادفي، وأخرى تماثلي.. لكنَّ الثابت أن هناك لقاءً. يمكن أن يتعانقا عناقًا حين تصير الكلمةُ جدارًا يلتفُّ فيقي مُتكلِّمَها من الحياة، من برودتها وسخونتها وهجومها الطويل والمتتالي، وغير الآخِذِ لأنفاسِه من ركضٍ ممتد، وغير رحيم وراء حيٍّ يُحاينُه الشعور..
إنَّ الشعر يأخذ دور الثابتة اليقينية في نفس الشاعر المتحوّلة بفعل ضرورات واقعية تفرض نفسها على ذات الشاعر الإنسانية الغضة بمعزل عن الشاعرية. الشعر هنا يقف كمن يشهر سيفه حراسةً للشاعر مما قد يقتل فيه هذه النكهة الغنائية الحساسة حساسيةً مُفرِطة، وهي التي لا تحتمل المُثبَت الواقعي على حساب نفسٍ شاعرة وحالمة.. تنثر غناءها رغم أصوات الطحن المجنون للإنسانية في النفس. إنَّ التصاق الاختيار بعوالم الشاعرية يجعل من الشعر مكسبًا ذات أجنحة، ولو تدخّلَتْ شؤون المبدأ التأسيسية للوجدان في ذلك يبقى الاختيار حرًّا ومفتوحًا؛ فالموهبة تحتاج السقاية، والسقاية مهمة الشاعر الحقيقية والكيفية هي الحاكم الأهم في مسألة إثبات الاختيار، وتحويل الشعر لخيمة الناطور المُنتظرة من الحياة للوقاية من تقلّبات مزاج الحياة الحادة والموجعة في آن. إذًا الشعر هو تلك الحديقة التي تمرُّ بها متعبًا مُصادفةً؛ فتقف عند المدخل مُحتاجًا التقرير للتكملة من عدمها من أجل الإيلاج والتحليق في عالم القصيدة السماوي والشاهق للتخلص من أعباء السهولة والشفافية المُطلَقة في عالمٍ مهمته دحض الرهبانية والفتك بها.
يتحوّل الشعر هنا لمذهب إنساني محض، يعلّمك التسامي ويأخذُ بيدك نحوك الآخر المراد من بين ثنياتِ فوضى الحياة. إنّك تصير إنسانًا منسيًّا مفقودًا، تنفي نفسك كتداع من تداعيات الزهد المقاتل من أجل الضد الفاني واتجاهات الحياة السحيقة. تسطعُ فيك شمسٌ غيرُ مُدرَكةٍ، وهي السر لكنّي لا أدري إن كانت العلانية بالتزامن مع الأداء الصوتي والجهوري للقصيدة. إنَّ الشعر بما معه وفيه خفيف خفّة التناول التأملي للزمان والمكان والمحسوس من حيث هو محسوس، وكذلك المُدرَك من حيث هو مُدرَك.. كما أنَّ الحواس تتحوّل لشاهدٍ ليس زورًا بالتزامن مع موقع البشريّ من حيث الشهادة على الوجود الإنساني كاملًا، ومن حيث التوافق والتناقض ومنهجيّة منفية من حياة الإنسان العادي، الذي استهلكته الأدوات فَنَفِذَ ومات وحطَّتْ على لحمه الميتِ الغرابيبُ الجائعة.. لسنا مكلّفين من قِبَل الحياة بأنَّ نكون هؤلاء المؤذنين في آذان العالم لإخباره بالغنائية المفقودة من مضمونه الطاحن، لكننا مسؤولون بمحضِ الضمير المستتر فينا عن إرساء مبادئ الرهبانية، على الأقل في نفوسنا، لنكون آخرين في عالمٍ كحبّاب رمل الصحراء في ظهيرةٍ حمِئة.
إنَّ حجم السؤال عما يمنحنا الشعرُ إياه ليس حجمًا ملموسًا على أوضح تقدير من تقديرات ارتداده على الذات، ويكتسب فكرة الحجم غير الملموس من خلال كونه مشهدًا، ولكن أي مشهد هذا الذي يختزل حجم السؤال غير الملموس عن منحة الشعر؟ سأجيب ببساطة إنّه ضغثُ مشهد، وذلك يتماثل بعفويةٍ أقرب للمطلقة مع بركة الماء التي ضرب طفلٌ فيها حجرًا فتكوّنَتْ الدوائر الصغيرة والكبيرة، لكنّها دوائر وهمية تزول بزوال خُطى الطفلِ من أمام البركة وغيابه الطوعي عنها. ذلك مشهدٌ ليس نادرًا إذا تحدثت عنه بالتزامن مع الحديث عن بقعة تكثُر فيها البِرَك والأطفال المشاكسين لكنّه نادرٌ حين الحديث عن مقاربة كهذه في مدينة يكادُ يقتلها الازدحام وأصوات الباعة والناس، وأخيرًا صوت الحياة منزوع البركة.. أما عن التباس حجم سؤال المنحة على الحالم فهو أقرب للعادي؛ لأنَّ مفردة المنحة مفردة ثقيلة السدول على الصارخين الذين تُبكيهم الحياة فيأتون ركضًا للشعر شاكين شاهرين حدوسهم في وجه المأساة.
الشاعرُ طفلٌ مهجور منفي ومؤجّل يبحثُ عن يدٍ تُشعِره أنَّ الحياةَ ليست التباسية كما يظنّها دائمًا، فيجد في لغة الشعر هذه اليد، حتى يشعر بعد ذلك أنّه لا زال على قيد السؤال عن الحياة ومشروعيتها ومشروعها في آن
من هنا؛ نزعة اللاشرعية الاستفهامية في خضمٍّ كهذا ستؤثِر الهدوء على نفسها ولو كان الهدوء بها خصاصة؛ لتعترض وتنفي وجود السؤال بعد طرحه الأقرب للمشروع إذا ما اقترن ذلك بحرية السؤال والتأمل والمعرفة.. من تلك الزاوية؛ نستطيع الانطلاق نحو فكرة أنَّ الشعرَ غيرُ مطلوبٍ منه أن يمنح، وارتباط نعت غير المطلوب بما يمنحه الشعر هو ارتباط مادي حياتي لا يتعدى كونه (قدِّم ما تستطيع تقديمة تجد الجزاء الواضح). لذا؛ فالأمر سيدخل في خانة التابوه التناولي للشعر؛ لأنَّ الشعر بجوهره استباقٌ معنوي للوجود الإنساني الروحي، وتكليل لغوي مكتنز لمسيرة مليئة بالمشقة والأسئلة المفتوحة..
في زحمة المِنَحِ النظريّةِ المُستفيضة وغير المنفصلةِ عن الشعر، فإنَّ ضرورةً ما تقود للسؤال عن جزالة العطاء الشعري الروحي للشاعر اقتيادًا عفويًّا، ويعود السبب في ذلك إلى المرونة التي خصّتها طبيعة التبادل للشعر (التبادل حيثُ اليد التي تُمشّى على رأس اليتيم فيشعر بالحنان مثالًا) هكذا بالضبط؛ تتجلّى الضرورة.
الشاعرُ طفلٌ مهجور منفي ومؤجّل يبحثُ عن يدٍ تُشعِره أنَّ الحياةَ ليست التباسية كما يظنّها دائمًا، فيجد في لغة الشعر هذه اليد، حتى يشعر بعد ذلك أنّه لا زال على قيد السؤال عن الحياة ومشروعيتها ومشروعها في آن.. وتجتمع هذه الأوجه الثلاثة في حقيبة الشاعر المهترئة من تعدد الجبهات التي تناهضه، وعدد المعارك التي قادها ويقودها وسيظل يقودها طالما أنّه لا زال حيًّا وعاجزًا عن التأسيس لقصيدته وبناء الآمال عليها كيدٍ تحفظ جغرافيا رأسِه عن ظهر قلب.. فيظل آمنًا في سِربِ خُطاه مُطمئنًّا أنَّ هناك ضرورات تمنعه من انحطاط مُطلَق السبب للحياة ودافعها في ذاته المُدغدَغة سلفًا.
وبتراتبيةٍ أشبه بالصعود إلى قيمة الحياة وجدليتها في إبصار الشاعر لما بعد الضرورة التي تقضي بالسؤال عما يعود على الشاعر من الشعر، فإنَّ عنصرين هما الممكن والأكيد سينبثقان كحالتين تجمعان بين الاحتمال والثابت والاستحالة.. لما قد يعود على الشاعر. الانبثاق للحالتين سيكون بمثابة تنزيه العطاء الروحي للشاعِرِ من قِبِل الشعر؛ لئلا يكون عطاءً عاديًّا يشبه العطاء الملموس بكُلّه.. لذا فإنَّ الضرورة ستتحوّل إلى درجة، وتليها درجة الممكن والأكيد في ظلَّ التفاسير واللغة التي تحكم العلاقة بين الشاعر والشعر من حيث هي علاقة براغماتية، رغم أنَّ برغمة هذه العلاقة أمر مريب في حالة الحديث عن جزئية رهبانية تُبنى شاعرية الشاعر عليها، لأنَّ الرهبانية خسارة المقابل عدا الروحي الذائب في روحيته، وتلاشي المقابل يُفسِد حالة الممكن مما قد يعود على الشاعر، ومن البديهي أنَّ الأكيد سيموت بفعلِ قصيدةٍ أبكت شاعرها خلال كتابته لها، أو ينتحر بغرقه في إلحاح الزهد على اختراق نفس الشاعر الآدمية وليست القصائدية. نجمع الآن بين الممكن والأكيد على مائدة الاحتمال جمعًا طوعيًّا ذات طقوس لا تنفصل عن إرادة الشاعر ومُطلَق الحاجة الراسخة له على حين بحثه عن البارشاعرية؛ ليكوِّن كينونةً موازيةً لكينونته السحقية والمُتعَبة من الإيراد الشكّي في عالم الممكنات وما يقابله من مساحة التأكيد..
الحياة تنتصر حين تُجهَض من عالم الشاعر المُرهَف والحميم بقصديةٍ لغوية تُبنى عفوًا بأذرُع الوعي الفني للشاعر، وتلك مرحلة، ومرحلة أخرى ينتصر الشاعر فيها حين يتمكن من تثبيت نفسه في طين الغنائية
البحث في أرض الشعر الجرداء عن ماءٍ تُبلِّل ريق الشاعر له قاعدة انطلاق، هذه القاعدة هي حالة الخصومة التي تنشب بين الشاعر والحياة بالتزامن مع شق الطريق نحو الجهة القصائدية. لهذا لا يمكن أن يحيا الشاعر الإنسان خاليًا تمامًا أو متخففًا تمامًا من الأسباب، ليستطيع تكمله الحياة وتكملة الشعر. فما بعد الحياة ما يشبهها؛ لتُكمَل كقصيدة وكما أراد لها الشاعر المُتخلّي عن الحياة ذلك. في مرحلة تكوين الشاعرية يبدأ السباق بينه وبين قدرة الحياة على الفِكاك من بين يدي الشاعر الذي اختار طريقًا مغايرًا لها دون فقدها التام، ومع تراكم الشاعرية وضخامة كرة ثلج الخصومة مع الحياة؛ فإنّها وبديهيًّا ستفُك نفسَها منه، ويبقى وحيدًا وخارج عوالم الواقع.. فيسقط السباق، إذًا هناك سباق لكنّه يخضع لمؤقتيةٍ تؤسس لها مزاجية القصيدة وطاقة الشاعر الخاصة بتمسكه بالحياة..
الحياة تنتصر حين تُجهَض من عالم الشاعر المُرهَف والحميم بقصديةٍ لغوية تُبنى عفوًا بأذرُع الوعي الفني للشاعر، وتلك مرحلة، ومرحلة أخرى ينتصر الشاعر فيها حين يتمكن من تثبيت نفسه في طين الغنائية، وهذا ما أسميته بسرمدية الشاعر في القصيدة تنتصر الحياة، ويفعل الشاعر انتصارًا مراحليًّا مُرضيًا للطرفين، فكل طرف أحاط نفسَه بأدواته الوجدانية دون النأي عن هلاميةٍ ما يحتكم لها الطرفان.
بعد هذا الطواف العائد والممنوح من الشعر، فإنَّ شبحًا ما يركضُ خلف الصارخ الشاعر، والمعنى وراء الشاعر الحالم. إنَّ ذلك انتفاضة بحثية في جوهر معناك كحامل للصفة. معنى ذلك الموضوعية بالاقتران مع حقيقة أنَّ الحياة بحد ذاتها فكرة مُفزِعة ومخيفة قبل الشاعر، وبعده كذلك وهو بين عارضيّن يتأمل ويدوّن ويطوّع ويصنع ويخلق سؤالًا طويلًا غنائيًا حول الفزع، ومهمة كهذه تم اختيارها طوعًا وبمحض الإرادة كفيلة بابتداع معنى لكونك شاعرًا، فما هو الصوت الذي يجب أن تصدَحَ به إذا تم تناول معنى الشاعر الحالم في أفق الرؤية الإجمالية للشاعر، سيكون التأمُّل والتدوين والتطويع والخلق عمليات يِرادُ بها إجابة على التساؤلات، وما الحياة بتلك الكريمة والمُهدِّئة لحريق التساؤل.. فتبقى مُبدِعًا يصرخ ويصرخ وينتظر، ولا يأتي المُنتظَر، لكنّك في أي مُستراحٍ بنّاءٌ ماهر ومُرهَف وحسّاس واستثنائيّ، يجعلُ من دم النائبةٍ حبرًا، ومن كلِّ سائبٍ مجموع الشمل بوجهةٍ وواجهةٍ ومرأى.. هو هذا الشاعر الحالم كل هذا.
