أسس الكاتب والروائي اللبناني الراحل سهيل إدريس "دار الآداب" عام 1956، بعد 3 سنوات من إصداره مجلة "الآداب"، وذلك في مسعىً منه لتقديم مشروع ثقافي ضخم يستوعب ما لم تستوعبه المجلة من دراسات أدبية وفكرية وروايات ودواوين شعرية وترجمات للعديد من الأعمال الروائية العالمية.
تسعى الدار إلى تنوير الإنسان العربي، والنهوض به، وتعزيز مكانته فكرًا وثقافةً وتاريخًا. وتحظى بمكانة مرموقة في عالم النشر العربي كونها استطاعت جذب أسماء كبار المؤلفين والكتّاب العرب لطباعة مؤلفاتهم الأدبية والفكرية، بالإضافة إلى رفدها المكتبة العربية بترجمات أولى لأهم الروايات العالمية.
في هذا الحوار، تتحدث رنا إدريس مديرة "دار الآداب" عن بدايات تأسيس الدار، وآليات عملها، والصعوبات التي تواجهها، وواقع النشر في العالم العربي عمومًا.
- متى تأسست الدار، وكيف؟ ما الذي دفعكم إلى تأسيسها؟ هل هناك عوامل وأسباب معينة، أو ربما حكاية خلف ولادتها؟
ولدت "دار الآداب" عام 1956 وذلك بعد تأسيس الوالد المرحوم سهيل إدريس مجلة "الآداب" عام 1953، بالاشتراك مع "دار العلم للملايين".
وفي عام 1959، انضمت دار "منشورات نزار قباني" لـ"دار الآداب"، ولكن كل هذه الشراكات لم تدم طويلًا، فبعد عدة سنوات استقلت "الدار" لتتابع المسيرة بمفردها.
رنا إدريس: تنحصر الصعوبات التي تواجه "دار الآداب" في القرصنة الإلكترونية والقرصنة الورقية، وهي ذاتها الصعوبات التي تواجه غالبية دور النشر العربية
جاء تأسيس الدار بعد عودة سهيل إدريس من فرنسا، حيث فكر حينها بإنشاء مشروع ثقافي ضخم، يستوعب ما لم تستوعبه مجلة "الآداب" من قصص وروايات ومسرح وشعر حديث ونقد ودراسات فكرية، لتكون بذلك "دار الآداب" وليدة مجلة "الآداب".
ساهمت والدتي المرحومة عايدة إدريس بتأسيس الدار، فقد كانت شريكة حقيقية لوالدي في كل خطوة قام بها في هذا المشروع، وهي بمثابة الجندي المجهول في انطلاقة هذا الصرح الثقافي الضخم، من خلال مساندتها ودعمها اللامحدود. ولقد سعت بكل ما أوتيت من عزيمة وصبر لافساح المجال لوالدي ليتفرغ لإدارة الدار، حيث تكفلت بشكل كامل برعاية وتربية الأولاد، بغية تخفيف الضغوطات عن كاهل والدي، كذلك كانت تشرف على الأمور اللوجستية بالدار، من ورقيات ومستودعات وسواها.
- ما هي رسالة الدار؟ وهل تعتقدون أنها استطاعت تحقيقها؟
أعتقد أننا استطعنا تحقيق العديد من أهداف "دار الآداب"، وأقول بثقة إننا استحوذنا على ثقة القارئ العربي من ناحية الالتزام السياسي الفكري، و من ناحية جودة الأعمال التي نقدمها، خاصة في مجال الرواية.
ظلت "دار الآداب" ملتزمة بالخط الذي رسمه سهيل إدريس ولكن بطرق وروح أحدث، مثلما فعل أخي المرحوم سماح في مجلة "الآداب"، خاصة بعد تحويلها لنسخة إلكترونية، وانضمام نخبة من المفكرين والشباب المندفعين للعمل والإنتاج.
لا زالت "دار الآداب" ملتزمة بنشر الآداب العالمية، ولازالت صوتًا لمن لاصوت له، إضافةً لدورها الكبير في تجسير الروابط الثقافية بين الشعوب من خلال تقديمها ترجمات أولى لروايات عالمية، مع تمسكها بالعروبة وبالتراث العربي.
- هل هناك كُتب معينة تفضلون نشرها؟ والأولوية بالنسبة إليكم، الكتب العربية أم المترجمة؟
في "دار الآداب" لدينا خط أحمر واحد فقط، خط نلتزم به ولن نحيد عنه أبدًا، وهو مسألة القضية الفلسطينية، فنحن نمنع نشر أي كتاب يدعم إسرائيل، ولا ننشر لأي كاتب إسرائيلي بالمطلق، أو أي مؤلفات تدعم وجهة النظر الإسرائيلية.
في المقابل، ندعم أي مؤلفات تنتقد الفساد في الأنظمة العربية، لأن هدفنا الأساسي هو نهضة الإنسان العربي. كذلك يهمنا في "دار الآداب" تجاوز مسألة "التابوهات" قدر الإمكان.
- متى يصبح النشر في العالم العربي احترافيًا برأيكم، من حيث اعتماد العمل المؤسسي، من الوكيل إلى المحرر الأدبي، وما بينهما؟
سأتحدث في هذا المضمار عن تجربة "دار الآداب" في آلية تطوير العمل وطريقة تبويبه مهنيًا ومؤسساتيًا. ففي 1986، كنت أقوم بالتحضير لرسالة الدكتوراه في أمريكا، حيث تلقيت اتصالًا هاتفيًا من والدي سهيل إدريس طالبًا مني العودة لبيروت، لأن الدار كانت بحاجة لدماء وأفكار جديدة، حسبما قال لي حينها، قلت لوالدي: "إنني أحتاج لعمل شيئ خاص بي يبرز بصمتي"، فوافق على طلبي.
طبعًا نحن كعائلة كنا نجتمع سويًا بشكل مستمر لإجراء جلسات حوارية ونقدية مصغرة، نتدارس خلالها المخطوطات التي تصلنا للدار.
رنا إدريس: ولدت "دار الآداب" لتستوعب ما لم تستوعبه مجلة "الآداب" من قصص وروايات ومسرح وشعر حديث ونقد ودراسات فكرية
انطلقت بداية عودتي لبيروت بترجمة بعض الروايات اليابانية عن طريق لغة ثالثة، وذلك لأني رأيت أن التقنية اليابانية تهيمن على الأسواق في لبنان، وغالبية الدول العربية، فأحببت أن يطلع القارئ العربي على آلية تفكير الشعب الياباني، وطريقة تعاطيه مع الحياة.
بعدها توجهت لترجمة وطباعة الروايات العالمية. وفي المقابل، كنت في تلك الأثناء في طور الاطلاع على الأعمال الأدبية العربية.
في "دار الآداب" نضع نصب أعيننا أن نكون احترافيين في مجال النشر، ولايهمنا "الكم" بل معيارنا الأول هو "الكيف". عادةً، لانطبع أكثر من أربعين عملًا جديدًا سنويًا.
نعترف أننا بالرغم من تمسكنا بإصدار الكتاب بأفضل حالة، لكن مازلنا بحاجة إلى عدد أكبر من المحررين، وللأسف، التحرير مكلف جدًا، ونحاول قدر المستطاع أن نضع لكل عمل نقوم بطباعته محررًا خاصًا به.
شكّلنا في "دار الآداب" منذ عام 1988 لجنة قراءة خاصة، وتتبع هذه اللجنة معايير دقيقة جدًا في اعتماد الأعمال لطباعتها، ومنها جودة النص، وسلامة اللغة، والحبكة المتماسكة، ونراعي مسألة تحديث الأسلوب، والمضمون، وبنية النص.
تتألف لجنة القراءة في "دار الآداب" من ثلاثة أعضاء؛ ناقد أكاديمي، وروائي، وقارئ "متنور" يمتلك حسًا نقديًا عاليًا، أختاره عادةً من معارض الكتب لمعرفة ماذا يحتاج القراء، وذلك لتقرير مدى جودة الأعمال التي تصلنا إلى الدار.
في النهاية، يتم تقديم تقرير شامل حول العمل، ثم نقوم بنشره في حال تمت الموافقة عليه، وطبعًا هذه اللجنة سرية، وتتغير في كل فترة، وكذلك لا تعرف من هو الكاتب. وفي المقابل، هم أنفسهم لا يعرفون بعضهم البعض.
- ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتكم؟ وما هي الصعوبات التي تواجهكم الآن؟
الصعوبات التي تواجهنا في "دار الآداب" هي ذاتها الصعوبات التي تواجه غالبية دور النشر في العالم العربي، وهي تنحصر في مسألتين، القرصنة الإلكترونية، والقرصنة الورقية، إضافةً لعدم تدخل السلطات أو الجهات النقابية لمحاربة هذه الكارثة التي تطال المؤلف، والناشر، والمحرر، والمترجم، والعملية الإبداعية برمتها.
رنا إدريس: نعترف أننا بالرغم من تمسكنا بإصدار الكتاب بأفضل حالة، لكن مازلنا بحاجة إلى عدد أكبر من المحررين
الصعوبات الأخرى مزعجة جدًا، وأهمها سلطة الرقابات العربية على دور النشر، وهي بحق مجحفة، وفي أحيان كثيرة تطال الرقابة حتى معارض الكتب، وتمنع الناشر نفسه من المشاركة بالمعارض، وليس فقط منع كتاب، أو كتابين، أو عناوين معينة.
الحقيقة نحن في "دار الآداب" نخوض حربًا مستمرة مع الرقابات العربية بهذا الخصوص، لأن إشكالية الرقابة مع دور النشر مسألة محصورة بالعالم العربي فقط. عادةً معارض الكتب في الغرب هي مكان رحب لتبادل "الحقوق" أكثر من كونها مكانًا لبيع الكتب مثلما لدينا في العالم العربي.
من المعروف أنه عندما تمنع الرقابات العربية دور النشر من المشاركة في معارض الكتب، فإنها تؤدي إلى "كسر" الناشر، ماينعكس بشكل جذري على عملية اختيار النصوص للناشر، وكذلك على جرأة الكاتب بالتطرق إلى أشياء قد تمنع الناشر من طباعتها.
- هل تغيّرت نظرتكم إلى مجال النشر مقارنةً بما كانت عليه لحظة انطلاق الدار؟ ولماذا؟
نحن الجيل الثاني الذي يشرف على مشروع "دار الآداب"، وأعتقد بشكل عام وضمن الخطوط العريضة، لا زلنا نسير بنفس الخط الذي رسمه الوالد والوالدة، وهو خلق قارئ عربي متنور، يستطيع مواكبة الحضارة، ويمتلك ثقافة عالمية، وبذات الوقت يحافظ على هويته العربية ولا يتخلى عنها، ومن هنا نتفهم لماذا تركز الدار على طرح ترجمات لروايات عالمية مهمة.
لا زلنا نسعى لقيام وحدة عربية، ليس بالضرورة أن تكون هذه الوحدة وفق الرؤية والاتجاه "الناصري"، بل بطرق مختلفة. ولذلك تتوجه "دار الآداب" للننشر لكل الكتاب العرب. ولازلنا نتمسك بالعربية الفصحى، لكي يفهم كل القراء العرب النصوص كما كان يحب الوالد المرحوم سهيل إدريس.
في الوقت الحالي نقبل أحيانًا أعمالًا يتخللها ألفاظ عامية، وفي حال كانت صعبة وغير مفهومة، نقوم بشرح هذه الألفاظ بالفصحى ضمن الهوامش.
نسعى في "دار الآداب" لخلق لغة طازجة جديدة من حيث الأسلوب واللغة، ويهمنا اكتشاف مواهب وأقلام جديدة.
والأهم بالنسبة لنا بقاء فلسطين في قائمة أولوياتنا، من خلال إيصال صوت الأسرى الفلسطينيين داخل المعتقلات الإسرائيلية، ونعتبر قضية فلسطين محور صراع مركب ومعقد؛ عرقي، ثقافي، ديني، وصراع شمال-جنوب، وشرق- غرب. ولن ينتهي هذا الصراع إلا بانتهاء الظلم العالمي.
- كيف تتعاملون مع ما يصلكم من مخطوطات؟ ما هي السياسات أو المعايير المتعبة؟
مؤخرًا بدأت تصلنا بعض المخطوطات عبر وكلاء أدبيين، لكن بشكل قليل جدًا، وهذه مسألة مهمة، خاصة إذا كان الوكيل جادًا في عمله، فالغالبية منهم يقومون بعملية تحرير العمل قبل عرضه علينا، ولكن هذه الظاهرة مازالت خجولة، بسبب كلفتها الباهظة، كون الوكيل الأدبي يأخذ مبالغ طائلة من المؤلف نفسه، والذي يكون عادةً في وضع وضع مادي لا يسمح بذلك، وهذا ينطبق على الكتب العربية حصرًا.
بينما الكتب المترجمة يختلف الوضع معها تمامًا، فهي لا بد لها أن تمرعبر وكلاء أجانب لديهم ثقة بالدار، مما يضطر الدار إلى إعطاءهم دفعة مسبقة عدا عما تدفعه للمترجم.
- ما رأيكم بالنقد المستمر الذي يتعرض له الناشرون في العالم العربي؟ وكيف تتعاملون معه؟
نرى في "دار الآداب" أن عملية النقد التي تطال دور النشر العربية مسألة في غاية الأهمية، كونها تساهم في تحسين واقع النشر، وآلية عمله، وتؤدي لتجاوز السلبيات التي تحيط به. لكن يجب إيضاح بعض الجوانب بما يخص علاقة المؤلف والناشر في العالم العربي. فالعلاقة ما بين الطرفين علاقة إشكالية قائمة على الشك وعدم الثقة، وذلك لأن بعض دور النشر العربية لم تحترم الحقوق المادية والمعنوية للمؤلف.
رنا إدريس: في "دار الآداب" لدينا خط أحمر واحد فقط، خط نلتزم به ولن نحيد عنه أبدًا، وهو مسألة القضية الفلسطينية
في "دار الآداب" نحاول قدر الامكان إنصاف المؤلف. بمعنىً آخر، نعمل على تعزيز الثقة لديه وطمأنته من خلال ضمان حقوقه المادية والمعنوية.
في الواقع، تعد الكتب الصادرة باللغة العربية قليلة الأرباح، وإن وجدت فهي نادرة، تعد على أصابع اليد الواحدة، بالرغم من ذلك نحب أن ننشر الروايات العربية، مع يقيننا أنها لن تجلب أرباحًا جيدة، انطلاقًا من مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الثقافة العربية، لذلك نقوم بإصدار مؤلفات لكتاب غربيين لهم رواج لدى القراء العرب، بغية تعويض خسائرنا نتيجة نشر المؤلفات العربية. وقد نجحنا في ذلك.