محمود هدايت كاتب وباحث عراقي في مجال الفلسفة والفنون، غير منتظم تحت لافتة ثقافية، ويكتب بخيال يجنح بوضوح نحو التفلسف المُقعر. متهمٌ بالتهرطق والانتحال، وتعرّضت نصوصه للانتقاد والتشكيك بحجَّة عدم امتلاكها رؤية واضحة. ويتّهمه كثير من مجايليه بالعقوق والجحود بحق أسماء أثرت منجزه الإبداعي، وصداقات ارتبط معها في مشاريع فنية وأدبية، لكنه سرعان ما انقلب عليها نقديًا وثقافيًا، مما جعل هذه الصفة لصيقة بشخصيته التي اتسمت بالعبث الفكري والانطواء وكثرة التقاطعات في الوسط الثقافي.
هنا حوار معه.
- ما السينما، وما سرّ تعلّقك بها؟
هي عدّاءُ مرايا، وتلاويح صمت من أبراج هالة الفكر. ويكمن سرّ تورُّطي بها في رغبتي العارمة في حيازة جسد بلا أعضاء، أي الصعود في دولاب مرآوي كريستالي دائم الدوران. وهذا الأخير هو اشتغال دولوزي طفت ملامحه على السطح بوضوح في كتابه عن السينما. إذ، لأول مرّةٍ، يكشف العطش عن سرّ رفاهية السراب، الحالة التي تنتقل بها الكلمة من الكلام إلى الصمت، أي من الصوت إلى الظاهرة، وهي في الأصل توثيقٌ لأثر محو الأثر بحسب دريدا. وفي اعتقادي أن السينما هي الفن الوحيد القادر على الإمساك بخامة الزمن.
محمود هدايت: أصبحت كلمة مثقف في وقتنا من الكلمات المشبوهة والسمجة، وكثيرًا ما يتعكز عليها البعض لمغازلة السلطة والتقرب منها
ببساطة، أحبُ السينما لأنّها جمعت بين الانفجار والانبجار في نسفها لبناية العقل، وتعويضه بخيالات منامة الذئب. السينما تمارين فلسفية للفكر الإنساني في كيفية تعامله مع الزمن. إنها الرجّة الحسية التي تعين الإنسان على تلمس شفافيته في الأشياء وعبورها إليه عبر فتحة كاميرا يقظة حسّاسة تُعزّز أحقية الفكر في التفلسف، والدخول في مفاوضات يمكنها أن توفر مساحة من ممكنات التفكير بوساطة صورة تتحرك.
السينما هاوية مخلوطة بصمت الإله وهي تزحف كالخمر في أعصاب النظرة. وفي أحيان أُخرى، أجدها ذلك التحديق الأكّال للصورة بوصفها وجهًا للزمن المُروِّض لصراخ الرؤية، وتحويلها إلى إشارات لا مرئية.
- متى تكتُب، وتحت أي ظرف؟
أكتب عندما يتنفَّس اللامرئي في النظرة الملساء المشحونة بشراهة امتلاك الوجود. إنَّها اللحظة السائلة الراغبة التي بمقدورها أن تمدَّني بتورَّط خفي وسري مفتوحين على غموض القلق الغاداميري (من أنا، من أنت) في رصدٍ حسيّ لزمن يتمرَّن على الحركة بين الحضور والغياب، أي بين اللحظة وفلسفة موتها فوق الأشياء والأمكنة والوجوه. إنّها السكون المفاجئ الذي يُصيِّرني وجهًا آخر لذبابة مارغريت دوراس، وهي تكتب موتها على الحائط بالطلاء. إن الكتابة هي الجنون الأسمى الحامل لنعمة الصمت البهيج، وهذا الأخير هو جبة الخضر، التي ستر بها الظلّ لحظة خلقه.
- كتابٌ تحلم بتأليفه؟
خِتان أوديب.
- لماذا تكرهك القبيلة الثقافية؟
لأنّي كاتب غير مكرَّس، ولا أنتمي لآرائي حتى، وذو هوى ورؤية جذموريين، الأمر الذي يجعلني في مواجهة دائمة ومفتوحة مع الإبداع الجماعي الملتزم بالمفهوم السارتري. والجماعية في اعتقادي هي تكريسٌ للجماعة بوصفها واحدًا، في ذلك يغدو الفعل الإبداعي حفلًا كوراليًا، كما حدث في سريالية أندريه بريتون، وتكعيبية بيكاسو، وستينية فاضل العزاوي.
وهذا خلاف الإبداع الحرّ الذي هو بالنسبة لي إنشادٌ للهاوية الذاتية، وارتماء في حضن المجهول المؤدي إلى فردية كونية؛ ولا شك أنّ رهان المبدع على تحقيق ذلك سوف يضعه في عداوة مباشرة مع حراس البيانات المقدسة، أولئك الذين يسميهم المفكر عبد العزيز العيادي بـ"شرطة التكيّف".
إذن، الحركات الأدبية والفنية هي أقفاص تدجين للأخيلة وحظائر أيديولوجية. وهذه الأخيرة هي المكان الأليَق لرُعاة الهذر المجاني، فلو فتشنا في منجزهم الإبداعي لن نجد سوى خوار مستورد، وانفعالات غابرة مُعاد تصنيعها دونما دراية وخبرة باحتياج راهن المرحلة. فالفنان ابنُ زمنه، وخلاف ذلك مؤكد أنه سوف يقع في الظلامية المُكثَّفة؛ ظلامية الرهان على جهل الآخرين، فيما الكتابة بالنسبة لي هي تحالف جُزر في محيط الجسد الغجري المشحون بشبق التهام نفسه قبل الآخر.
- كاتبٌ أو شاعرٌ أو فنان تودّ اللقاء به؟
جوزيف بويز.
- جملة تمنيت كتابتها؟
"الفكر لا يُعطيك بعضه حتى تعطيهُ كلّك" لإبراهيم النظّام.
- ما الكتابة؟
برازٌ ومنّيٌ بحسب دولوز، بمعنى أنّها تغوير لسؤال الوجود، وفي الآن نفسه تقشير لبصلته، تلك التي خصَّها غونتر غراس بمؤلَّفٍ خاص وبليغ، وفي أحيانٍ كثيرة تبدو لي الكتابة محاولة في "أخذ حصتي من العار" كما جاء على لسان "جان" في رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة، عار الحضور في زمن القتل المجاني، والأجساد المهروسة، والأوبئة المُصنّعة. لكنّي في النهاية أتساءل مع باول تسيلان: "من يشهد على الشاهد؟".
- شخصيةٌ تحدثها دائمًا.
هاملت.
- يُقال أنَّك بدأت سرياليًا، ثم انقلبت على السريالية، ما صحة ذلك؟
هذا صحيح، لقد عكفت فترة ليست بالقصيرة على قراءة التراث السريالي كاملاً، لكن عندما وجدتني حبيسًا في دماغ جماعي واحد، قرّرت الخروج عليها والذهاب نحو التعدّد الذي تفتقر إليه سريالية الزرافات، والفيلة الدائرية، والسمك البلاستيكي. وبلا مخاتلة، أستطيع أن أسمي هذا النوع من الكتابة بـ"السريالية التراثية"، القائمة على التعميد ببول التاريخ، والغطس في برازه المقدس، والمرتكزة على تعاليم الأسلاف، وهي مشابهة إلى حدّ كبيرٍ للأصوليات المتطرفة، يُعارضها في الجانب الآخر سريالية العصف الفكري، التي هي نضيدة مواجهة مفتوحة مع أعطاب المعنى، وتمارين في تنغيم الحياة إيروسيًا.
إنّها سريالية أنطونين آرتو، وجورج باتاي، ورينيه شار، وايف بونفوا، وجوزيف شاينا، وأمثالهم الكثير من شعراء وفناني ومفكري وفلاسفة كتيبة الخصية ألف. وبذلك أقول إنني ابنٌ للسريالية الذاتية لا السريالية المدرسية. السريالية الهدّامة الرافضة لكل أنواع التضامن مع النصوص الغابرة.
وفي هذا الصدد، أشدد على ضرورة وأهمية مراكمة تجربة ذاتية، إذ لا يمكن لجسدٍ ما أن يتعرّق بمسام مستعارة، ولا يفعل ذلك سوى عديمي الإبداع، ويمكن أن أُعزز رؤيتي هذه بما قاله ريلكه في رسالته لشاعرٍ شاب "ينبغي أن تصبح حياتك هي العلامة والشاهد على مثل هذه الوثبة"، أو بإشارة النفري لأهمية الخاصي في قوله "الحق أن لا تستعير لسانًا من أحد".
- ما الجنس؟
مبادرةٌ غنوصية في فتح الحدود بين الحيوان والإنسان، بين الإله وإيروس، يعني أنَّ الجنس هو شغف الإله نفسه في حضور منازلة Corrida de toros، حيث الرغبة ممثَّلة في الخرقة الحمراء المُهيجة للثور الأسطوري المُتألِّه في مناطحة صورته النرسيسية في نزال سري مع الظل الشبقي للإله. إنه نهاية لفصل الاستئساد الغريزي الواحدي بين طرفي المنازلة.
- أهم النصوص المسرحية التي قرأتها؟
"هاملت ماكنة" لهاينر مولر، و"قرافة السيارات" لفرناندو أرابال، وأعمال ماكس فريش، و"الامتثال" لجورج شحادة، إضافةً إلى كتب في النقد والتنظير المسرحي مثل "مسرح الموت" لكانتور، و"المسرح والملاكمة" لفرانكو روفيني، و"المسرح في طريق مسدود" لكارول روسين، وتحفة هانس ليمان "مسرح مابعد الدراما"، والعديد من المصادر المهمة في حقل الفكر المسرحي.
- هل الجنون ضرورة فكرية لتحقّق الفعل الابداعي؟
أجل، لأنَّه الزمن السرّي للتلاسن الفكري، أي هو تملص من غطرسة الأزمنة المتاحة المتمثلة بالتذكّر، ولا سرّية للزمن من دون رهان على حيازة عبقرية النسيان التي هي الجنون بعينه.
- أي كتاب تقرأ الآن؟
"بداية الحكمة" للطبطبائي، ورواية "درب مولاي الشريف" لجواد مديدش، ورسائل أبي بكر ابن باجة.
- كيف ترى المسرح العراقي عامة، والمسرح الديواني خاصة؟
قبل أن ندخل في تقويم المسرح العراقي، ينبغي أن نفصل بين المسرح المعرفي، ومسرح المقاعد المدرسية التي هي شاغرة معرفيًا دومًا، ويبدو لي أنَّ فهم هذه الثنائية هي الأساس الذي على الناقد والمراقب الجمالي النظر فيه عند تقييمه لفن المسرح، وأن عدم الفصل بين المسرحين، المعرفي والأكاديمي، هو أصل مشكلة المسرح العراقي الذي تحوَّل إلى مؤسّسة إنجابية مهمتها تفريخ حشود من حملة شهادات فنية فارغة غير مكترثة للهم الإبداعي، فصار من النادر أن نحظى بموهبة إبداعية واحدة.
محمود هدايت: السينما تمارين فلسفية للفكر الإنساني في كيفية تعامله مع الزمن، والرجّة الحسية التي تعين الإنسان على تلمس شفافيته
ويعود سبب ذلك إلى جهل من يُسمّون بالأساتذة الذين هم بعيدون عن القراءة والتواصل المعرفي مع حضارات فن المسرح في العالم. ويبدو أن عدوى الجهل قد انتقلت إلى طلبتهم من خريجي الكليات والمعاهد. ولا عجب إن قلت إن المسرح العراقي أكاديمي النزعة والتضاريس، وأنه يفتقر للنظرية، ويظهر هذا في مؤلفات مخرجيه ومنظريه الكبار أمثال صلاح القصب، وعوني كرومي، وعقيل مهدي، وعواد علي، باستثناء فاضل سوداني الذي استطاع أن يجترحَ متنًا إخراجيًا ونظريًا متميزًا خاصًا به.
أما فيما يخص المسرح الديواني، فهو عبارة عن نشاطات فنية خالية من الحضور الفكري، كما أن أغلب عروضه التي قُدِمت تندرج تحت مسمّى "الانفعال المسرحي". واللافت للنظر أن من يسمَّون بالرواد والشباب لا يزالون يتحرّكون تحت سقف الانفعال، ويبدو أنهما قد اتفقا على إزاحة وعزل من يتعارض ويتقاطع مع مشوارهما الانفعالي. فمنهم من سرق نصوصي الفكرية وحولها إلى بحوث (سمنار)، ومنهم من يجتزئ مبحثًا كاملًا من كتاب أحد أساتذته في الدراسات العليا، وكاد أن يُفصل ويُرقن قيده بسبب فعلته المشينة هذه لولا تدخل أحد الأستاذة في الوقت بدل الضائع.
- كتاب قرأته وتمنيت أن تكون مؤلَّفه؟
"الجرح السري" لجان جوني، و"الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، و"موجز تاريخ الأرداف" لجان ليك هينيج، و"اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا، و"عواء آلن غينسبرغ"، و"أنا.." لبرنار نويل، و"النحت في الزمن" لتاركوفسكي، والعديد من الكتب النادرة المهووسة بالتجريب والتخريب في آن واحد.
- كيف ترى المثقف العراقي اليوم؟
هناك صنفان من المثقف في العراق، أولهما هو مثقف المهرجانات والجوائز والمُنح المالية الحكومية، التي هي من وجهة نظري طريقة مثالية لتمييع وإِفتار الرفض، وقتل لدور المثقف والثقافة، وفي اعتقادي أنها أخطر من القتل بالمسدسات كما حدث لفيديريكو غارثيا لوركا، والشاعر والمخرج السينمائي بازوليني، أو ما جرى من اعتقال على يد ستالين لدانييل خارمس، وألكسندر سولجنيتسين، وماندلشتام.
وثانيهما هو مثقف المحكّ؛ وأعني به ذلك الحاضر في قلب الأحداث المصيرية، ومثال ذلك فاضل العزاوي الذي تعرض للاعتقال ومحاصرة منجزه الإبداعي مما اضطره إلى مغادرة البلاد. واللافت في تجربة العزاوي أنه بقي على موافقه حتى بعد سقوط فاشية "البعث"، حيث أعلن معارضته للمحتل الأمريكي، وعمليته السياسية التي جيء بها برعاية طائرات الحرب ومجنزراتها، ومرتزقة الدم. وههنا يكون المثقف العراقي قد دخل في حقبة جديدة برزت فيها الطوائف واختفى الوطن.
محمود هدايت: أحبُ السينما لأنّها جمعت بين الانفجار والانبجار في نسفها لبناية العقل، وتعويضه بخيالات منامة الذئب
أما في وقتنا الراهن فقد أصبحت كلمة مثقف من الكلمات المشبوهة والسمجة، وكثيرًا ما يتعكز عليها البعض لمغازلة السلطة والتقرب منها، فبماذا نفسر التقاط مجموعة من المثقفين من كتّاب ومفكرين صورة جماعية مع رئيس حزب اسلامي متهم بتخريب البلاد، وتهريب أمواله إلى بنوك العالم؟
وعلى الجانب الآخر، يحضر سعدي يوسف بمنجزه الكبير، وموقفه الإشكالي الذي استطاع أن يُحرج الثقافة العراقية، فكان الرد أن أُحرقت كتبه في شارع المتنبي في مشهد هولاكي بربري مشين، كذلك منع اتحاد الأدباء جلسة احتفاء بمنجزه الشعري، بحجة شتمه للمرجعيات الدينية. وهنا أتساءل: متى أصبحت الثقافة مصدًا لزعامات الموت والتخريب؟ ببساطة، إننا نعيش اليوم زمن مثقف الـ"ماستر كارد"، إذ إن الغالبية العظمى من أدباء وفنانين في لهاث محموم خلف "التفاليس" باللهجة العراقية، وليس الإبداع الذي تحوَّل لحكاية أسطورية نسمع به ولا نراه.
- يتّهمك البعض أنك كثيرًا ما تتخلّى عن الأصدقاء؟
هل تُسمِّي هؤلاء البالوعات والقذارة أصدقاء! وفيما يخص فلسفتي للصداقة، أقولها بكل صراحة إنني محتاج لحلفاء جمال ومعرفة يحضرون في المغاور الوجودية لإنسان منشغلٌ في بحث دائم عنه اسمه "محمود هدايت"، وليس لصداقات استهلاكية مملة لا تُنتج سوى شتائم مجانية ضد هذا الطرف أو ذاك. كما أنني أفهم الصداقة على أنَّها حلف أسطوري بين غيمة وسهل، أو بين وجه ومرآة.
وبالتالي، نحن معنيون بالتثاقف والشراكة الفكرية كالكتابة والرسم والتمثيل، لا الشتيمة التي هي أفعال نجوم البرامج السياسية، وبروباغندا التطرف. أضف إلى ذلك أنني لست كاتب أو ناقد علاقات عامة، وفاشل جدًا في مهنة حمل حقائب الشعراء في شوارع بيروت، والجري خلفهم مقابل وجبة غداء في مطاعم الحمرا مثلما يفعلها البعض من ماسحي الأكتاف. كذلك أرى أن فكرة الأجيال الثقافية لا تقل خطورة عن التكتلات الأصولية والسياسة.
- ما أقرب مكان إلى قلبك؟
سوق المستعمل "البالات"، وفي الحقيقة هو ليس مكانًا فحسب، وإنما معرضًا فنيًا يزخر بزوار ومتبضعين من نوع خاص، وهذه الصفة هي من طبعته برمزية فنية، ذلك لأنَّ الفن هو بضاعة الاختلاف وليس الاجماع الذي ترتكز عليه متاجر الموضة حاليًا. فأنَ تمتلك ذوقًا خاصًا غير توافقي، يعني أنك قد ابتكرت نخبويتك الخالصة، وهذه الأخيرة هي اشتراطٌ فني. كذلك يمكننا أن نقرأ ظاهرة اللجوء إلى اقتناء المستعمل بوصفها احتجاجًا على غطرسة التاجر المعاصر، والغلاء الفاحش، وبذلك نكون قد حققنا نبوءة دوشامب القائلة بأن َّإنسان المستقبل هو إنسانُ لُقى.
- كيف ترى المشهد الثقافي في الديوانية؟
أقولها بصوتٍ عالٍ وليستأ من في قلبه مرض، إن هذه المدينة خالية من سمات الفعل الثقافي الرصين، إذ إن كل ما يتحرك فوق أرضها من نشاطات فنية وأدبية هي انفعالات جماعية تفتقر للمعرفة والفكر.