تنطلق روايات جوزيه ساراماغو من فرضية، أو من سؤال، ثم يتحوّل النصّ إلى برهنة على تلك الفرضية، أو إجابة عن ذاك السؤال.
ماذا يحدث لو أصبح الأشخاص الخياليون الذين اخترعهم فرناندو بيسوا أشخاصًا من لحم ودم؟ الجواب هو رواية "سنة موت ريكاردو ريس". وإذا انخلعت شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) من جسد القارة الأوروبية فإلى أين ستذهب؟ الجواب موجود في رواية "الطوف الحجري". هل يمكن تزوير التاريخ بجرة قلم؟ نعم.. يمكن لمدقّق لغوي وضع حرف النفي في بداية المتن كما تقول "قصة حصار لشبونة" وسيكون أمامنا تاريخ آخر. وكيف سيكون حال العالم لو فقدنا البصر؟ "العمى" ترسم أدق التفاصيل لذلك. هل يمكن للموت أن يتوقف؟ أن يأخذ إجازة عن عمله؟ طبعًا، والسيناريو جاهز في "انقطاعات الموت".
يقسم النقّاد تجربة ساراماغو إلى مرحلتين، الأولى هي المرحلة التاريخية التي أراد فيها مراجعة تاريخ البرتغال، أما الثانية فسميت بـ"السلسلة المجازية" وفيها ذهب باتجاه الفانتازيا والتأمل
يكتب ساراماغو النص كتلةً واحدة، من دون علامات ترقيم، مازجًا أصوات الشخصيات، التي بلا أسماء على الأغلب، والتي لا يمكن تمييز كلامها إلا بتغميق الحرف الأول من جملة المتكلم (الكلمة في الترجمة العربية والحرف الأول في الأصل). هذا الأسلوب غير المسبوق يريد جعل الرواية جملة طويلة لا تتعرض لقطع.
يقسم النقّاد تجربته إلى مرحلتين، الأولى هي المرحلة التاريخية وتشمل كل الروايات التي كتبها حتى نهاية تسعينات القرن الماضي، وتميزت بالمراجعة النقدية لتاريخ البرتغال. أما الثانية فسميت بـ"السلسلة المجازية"، وتبدأ مع رواية "الإنجيل كما يرويه المسيح"، حيث راح يمزج في خطابه الفانتازيا بالتهكم بالتأمل.. إلخ.
ميزته الأهم هي انتماؤه إلى تصنيفات تعافها الحداثة الأدبية: الحكمة والالتزام. ولهذا وقف دومًا مواقف شجاعة يتحاشها المشاهير خشية التشويش على مكتسباتهم. تمتد مواقفه من نقده الشديد لحكومة بلاده، إلى نقد الكنيسة الكاثوليكية، والتحرك الدائم ضد النظام الرأسمالي. هو المناضل في شبابه ضد دكتاتورية سالازار في بلاده، والعضو الفعال في محاربة هيمنة العولمة، إذ ساهم في صياغة بيان المنتدى الاجتماعي العالمي في "بورتو أليغري" البرازيلية، وصولًا إلى موقفه الشجاع من القضية الفلسطينية، ففي أواخر آذار/مارس 2002 جاء ضمن وفد من "البرلمان العالمي للكتاب" إلى فلسطين المحتلة، ومثل جميع أعضاء الوفد أعلن رفضه للممارسات العنصرية الصهيونية، ولصمت العالم الغربي المريب.
وصف ساراماغو ما رآه وما استخلصه في مقال سمّاه "من أحجار داوود إلى دبابات جليات"، وكتب يقول: "إسرائيل تريدنا أن نصدق بالقبول على كل جرائمها التي أصبحت بالنسبة لها أمرًا واقعًا واجب النفاذ. إنها تريد الحصانة المطلقة. ولا يمكن أبدًا، من وجهة نظر اليهود، أن تخضع أفعال إسرائيل للعقل، وذلك بسبب أن أبناءها عُذبوا، ووضعوا في غرف الغاز، وحرقوا في معسكر اعتقال أوشفيتز. وإنني لأتساءل لو أن اليهود الذين فقدوا حياتهم في مراكز التعذيب النازية تلك، وهؤلاء الذين ظلوا مطاردين على مر عصور التاريخ، والذين انغلقوا على أنفسهم في أحياء الغيتو الفقيرة، ترى لو هذه الجموع الهائلة من البائسين رأت الأفعال الدامية التي يأتي بها أحفادهم الآن، ألن يشعروا بالخزي والعار؟ أوليست المعاناة الشديدة هي دائمًا أقوى دافع كي لا نتسبب في معاناة الآخرين؟".
في سنته الأخيرة في الحياة، كان ساراماغو عضوًا فعالًا في محكمة "برتراند راسل" حول فلسطين، التي تهدف إلى حث المنظمات الدولية على معاقبة "إسرائيل" وإنهاء حالة "لاعقابها"
في سنته الأخيرة في الحياة كان عضوًا فعالًا في محكمة "برتراند راسل" حول فلسطين، التي تأسست في آذار/مارس 2009، وهي محكمة تهدف إلى حث المنظمات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة على معاقبة "إسرائيل" وإنهاء حالة "لاعقابها".
لأنه أول برتغاليّ ينال نوبل عاشت بلاده عرسًا حقيقيًّا، وفي حوار أجري معه في تلك الفترة قال: "أصبحت الجائزة حدثًا وطنيًا، فالناس يجيئون لا ليهنئوني -وهو الشيء الطبيعي- ولكن ليقولوا شكرًا جزيلًا، كما لو أن الجائزة ضربٌ من الاعتراف بكل أبناء بلدي، وكما لو أن كل برتغالي قد ازداد طوله بوصة كاملة".