جيل غوغل لا يقيم وزنًا لأثقال كثيرة تثقلنا نحن المسنين. يأخذ جسمه بكليته وعلى الوجه نفسه يأخذ أجسام الآخرين. الجسم في هذا المعنى مؤد لوظائف، وهي وظائف مختلفة، فلا ينتقص من الجسم كون صاحبه لا يستطيع المشي مثلًا، أو له عين واحدة. الوظائف التي يضطلع بها جسمنا العامل، أو بالأصح الموروث من تاريخ العمل اليدوي، ليست هي نفسها الوظائف التي يضطلع بها جسم من يستقبل العالم ويشكّل شخصيته ويبني علاقاته من خلال جهاز الكمبيوتر المحمول.
نجح جيل غوغل في إعادة جمع الجسم البشري كلًا واحدًا، بعد أن نجح آباؤه وأجداده في تقطيعه إلى أعضاء متفرقة
لا يعني ما تقدم أن جيل غوغل لا يميز بين الجميل والأقل جمالًا، بحسب تعريف آبائه للجمال. لكنه، من جهة أخرى، يتعامل مع معايير الجمال بوصفها شأنًا عارضًا. فما دام الجسم قادرًا على أداء وظائفه، فلا حاجة لتزيينه وتعطيره والعناية الشديدة به للقاء الآخرين. على هذا يمكننا أن نفهم معنى الأزياء الرائجة التي يهواها هذا الجيل وهي تكاد تخرج عن كل منطق مفهوم. فما يُلبس، إنما يُلبس لقدرته على أداء وظيفته على أتم وجه، ولا يُعتمد أو يُختار، لمناسبته الهندسية لشكل الجسم.
مع ذلك، يحدث أن يستسلم أبناء هذا الجيل لمشيئة آبائهم وأذواقهم، فيختارون عطورًا ذائعة الصيت ويرتدون ثيابًا تبرز مفاتن شبابهم. لكنهم، وهم يفعلون ذلك، يبدون كمن يؤدي دورًا في مشهد مسرحي. في لحظاتهم هذه يخرجون من أنفسهم ويصبحون عارضين أو ممثلين. وما أن تنتهي الوصلة التي يقومون بأدائها حتى يعودوا إلى علاقتهم العارية بأجسامهم، كما لو أن ما مر سابقًا، لم يكن إلا واجبًا يجدر بهم أن يقوموا به تجاه آبائهم.
هذه العلاقة المستغربة بالجسم تفضي إلى تبدلات كثيرة في علاقة أبناء هذا الجيل مع المفاهيم التي تركزت منذ قرون، وقولبت أجسام البشر على وقعها. فالجسم الذي بات يشبه آلة، لا يختلف في أداء وظائفه عن أي جسم آخر، بسبب الاختلاف في الشكل. وتاليًا فإن الجسم الذي يعيننا على قضاء حوائجنا، ونعينه على قضاء حوائجه في الوقت نفسه، يصبح مع هذا الجيل كتلة واحدة. أي أنهم لا يقيمون وزنًا كبيرًا لأعضاء الجسم المختلفة. فكل العيون مقبولة، وكل الأوراك وكل الأفخاذ والصدور، وليس ثمة تفضيل لعضو على آخر بسبب تشكله في الجسم.
وبكلام أكثر صفاقة، لا يرتبط الجنس ارتبًاطا وثيقًا بالحب بالنسبة لهذا الجيل. ذلك أن هذا الربط هو تصعيد مفهومي للرغبة نحو تحويلها إلى مشاعر وأهواء. في حين أن أصلها هو رغبة عارمة. وبهذا الفصل بين الوظيفة البيولوجية للجنس والوظيفة المفهومية للحب، ينجح هذا الجيل في جعل الحب أكثر عذوبة ورقة من الحب الذي لوثناه نحن المسنون بخياناتنا التي لا تنتهي. فما دام الجنس مفصولًا عن الحب، فإن المظهر العام المعتنى به للمحبوب لا يعود مقررًا في شأن الوقوع في غرامه. ذلك أن العلاقة بين أبناء هذا الجيل تبدأ باللغة، وتنمو في كنفها، قبل أي شيء آخر.
الوظائف التي يضطلع بها جسمنا العامل، ليست هي نفسها الوظائف التي يضطلع بها جسم من يشكل شخصيته من خلال جهاز الكمبيوتر المحمول
على هذا يؤخذ جسم المحبوب بكليته، ويُعرّف باللغة التي يحيطه صاحبه بها. فلا يتفوق نهد على نهد بسبب حجمه أو شكله، ولا يتفوق خصر على آخر بسبب ضموره ورقته، بل تبدو الأجسام كلها قادرة على أن تمنح صاحبها الثقة في أن يكون محبوبًا ومرغوبًا. لهذا لا يأنف هذا الجيل من نقش الأوشام على جلده، ذلك أن ما يرسم على الجلد لا يعطل وظيفة الأجسام على أي وجه من الوجوه.
بهذا المسلك الأقل تعقيدًا حيال الجسم البشري، ينجح هذا الجيل في إعادة جمع الجسم البشري كلًا واحدًا، بعد أن نجح آباؤه وأجداده في تقطيعه إلى أعضاء متفرقة وإنشاء أحزاب وفرق تنحاز وتتحزب لهذا العضو أو ذاك، شكلًا ووظيفة على حد سواء.
