من بين جميع رواة القصص العظماء في عصرنا، هناك القليل ممن يمتلكون القدرة على كشف الحقائق الخفية لعالمنا بدقة وعمق مثل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو الذي يكشف في صفحات روايته "الكهف" النقاب عن الخيوط المعقدة لوجودنا المعاصر، وعن ضعف مجتمع تُغريه النزعة الاستهلاكية، ويقع في شرك الدعاية والتسويق، ويتأرجح على شفا خسارة عميقة، وهي خسارة إنسانيتنا ذاتها.
وبينما نبدأ هذه الرحلة الفكرية، نجد أنفسنا منجذبين إلى عالم لا يختلف عن عالمنا، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والرمزية، وحيث كل كلمة هي مرآة تعكس انتصارات وخسائر عصرنا على حد سواء.
قصة الرواية
تسرد رواية "الكهف" قصة سيبريانو ألجور، صانع الفخار، وابنته مارتا وزوجها مرسيال. يعيش الثلاثة معًا في قرية صغيرة في بلد بلا اسم، وينتجون الفخار التقليدي ويبيعونه لمؤسسة ضخمة تُدعى "المركز"، وهو مكان يعيش فيه أشخاص كثيرون، ويُعد عالمًا مصغرًا مكتفيًا بذاته مليئًا بالمحلات التجارية والمطاعم والمتاحف، وحتى "الغرف البيئية" التي تنتقل بسلاسة من شمس الصيف إلى المطر إلى العواصف الثلجية.
يكشف جوزيه ساراماغو في روايته النقاب عن الخيوط المعقدة لوجودنا المعاصر، وعن ضعف مجتمعاتنا التي تُغريها النزعة الاستهلاكية
وفي أحد الأيام، يذهب سيبريانو إلى المركز لبيع الفخار الخاص به كما يفعل أسبوعيًا، لكنه يُفاجئ بإبلاغه بأن المركز لن يشتري الفخار الخاص به بعد الآن، ويُقال له إن المستهلكين يفضلون الآن أدوات المائدة البلاستيكية. هذه الأخبار تدمر سيبريانو وابنته مارتا، لأن مصدر رزقهما يعتمد على تجارة الفخار وحسب.
ومع ذلك، يرفض سيبريانو الاستسلام واليأس ويحاول التكيّف مع الزمن المتغير، فيبدأ في صنع عرائس من الفخار بأشكال مختلفة على أمل أن تُباع في المركز، ويرافقه في هذه الرحلة ابنته مارتا وكلبه الجديد.
لكن هذه العرائس، للأسف، تُرفض. فلم يجدا حلًا حينها سوى الانتقال إلى المركز بعد توظيف مرسيال كفرد أمن دائم، ومن ثم أصبح له الحق بمسكن داخل المركز. وبعد تردد كبير وافقوا في النهاية على أمل إيجاد حياة أفضل لهم.لكنهم سرعان ما يكتشفون أن المركز بعيد كل البعد عن المدينة الفاضلة التي يدَّعي أنها كذلك.
إنسانيتنا على مفترق طرق
تقع أحداث رواية "الكهف" في مستقبل ديستوبي يقع في قلبه المركز الذي يرمز إلى جاذبية النزعة الاستهلاكية التي لا تُقاوم. وبينما نتابع رحلة سيبريانو ألجور، وابنته مارتا، نرى كفاحهما للتكيّف مع العالم الحديث الذي يهيمن عليه المركز.
وإلى جانب انتقاد النزعة الاستهلاكية، يتعمق ساراماغو في التداعيات العميقة لهذا التحول الثقافي. فمن خلال التدقيق في حياة سيبريانو وتتبع خطوات صناعته خطوة وراء أخرى، نرى فقدان الهوية والتخلي عن الحرفة في مواجهة الإنتاج الضخم. ويتردد صدى هذه الخسارة في المناقشات المعاصرة الخاصة بتأثير الرأسمالية العالمية على الاقتصادات والثقافات المحلية.
كما تؤكد رحلة سيبريانو في صنع العرائس للمركز على تسليع الفن وإخضاع الإبداع لقوى السوق، وتطرح تجربته سؤالًا حول ما إذا كان السعي وراء الربح يؤدي حتمًا إلى توحيد الثقافة بشكل يجرد الإنسان من إنسانيته.
وبجانب ذلك، فإن الرواية تتعمق أيضًا في تآكل الروابط الإنسانية، فبينما توجد الشخصيات في عالم تهيمن عليه النزعة الاستهلاكية والتكنولوجيا، تؤكد الرواية على العزلة والانفصال الذي يمكن أن ينتج عن هذا التحديث السريع. إن تصوير ساراماغو لشخصيات مثل سيبريانو ومارتا، اللذين يتصارعان مع الوحدة والغربة، يعكس التجربة المعاصرة للعيش في عالم رقمي غير شخصي.
عن أي كهف يتحدث ساراماغو؟
تُفتتح الرواية باقتباس من "الكتاب السابع" لجمهورية أفلاطون:
"يا لغرابة المشهد الذي تصفه
ويا لهم من سجناء مستغربين.
إنهم مثلنا".
هذا الاقتباس، بجانب اسم الرواية، بالإضافة إلى مشهد أخير فقط، هو ما يربط بين هذه الرواية ورمزية الكهف لأفلاطون بشكل حرفي. ومع ذلك، كان هذا كافيًا لإعادة الروح في نظرية أفلاطون ورؤيتها في واقعنا الحالي، مهما كان الأمر مُخيفًا.
تتمثل رمزية الكهف في تخيل مجموعة من السجناء الذين عاشوا طوال حياتهم مقيَّدين في كهف، في مواجهة جدار فارغ، وخلفهم توجد نار، وكل ما يراه السجناء هي الظلال على الحائط من الأشياء التي تمر أمام النار، ويعتقد السجناء أن هذه الظلال حقيقية وواقعية. ثم يشرح أفلاطون كيف أن الفيلسوف هو السجين الذي تحرر من الكهف وأدرك أن الظلال الموجودة على الحائط لا تشكل الواقع على الإطلاق، لكنه حين أخبر زملائه بالحقيقة سخروا منه، فالظلال هي كل ما عرفوه طوال حياتهم.
في رواية ساراماغو تتصارع الشخصيات بالمثل مع الظلال التي أخطأت في اعتبارها الواقع، ووقعت في شرك عالم المركز المصطنع، حيث لا يُعرف الأشخاص بأسمائهم بل بأرقامهم وطبقاتهم الاجتماعية، ولا يُسمح لهم حتى بالاحتفاظ بالحيوانات الأليفة أو زرع النباتات، والدخول والخروج فيه بحساب.
لكن في النهاية سيرى سيبريانو ومارتا الظلال على حقيقتها، لقد أدركوا في النهاية أن المركز ليس عالمًا حقيقيًا، بل سجنًا مزيفًا، وأن الأشخاص الذين يعيشون هناك هم سجناء من صنعهم يرفضون رؤية الحقيقة. وفي النهاية سيهربون من المركز إلى البرية، فالبرية هي رمز للعالم الحقيقي، والذي غالبًا ما يكون قاسيًا ولا يرحم، ولكنه أيضًا مكان يمكن للناس فيه أن يكونوا أحرارًا ويعيشون وفق شروطهم الخاصة.
الاستثنائي في العادي
من السمات اللافتة للنظر في الرواية هو تصوير الشخصيات العادية، فشخصيات الرواية هم أشخاص عاديون يعيشون حياة عادية في بيئة بائسة وخاضعة للسيطرة الشديدة. إنهم يعملون، ويتسوقون، ويأكلون، ويمارسون أعمالهم الروتينية بإحساس من الاستسلام للحياة الطبيعية. لكن مع تطور السرد، نراهم بعيون أخرى، فعلى الرغم من بساطتهم إلا أنهم يمتلكون البصيرة العميقة والشجاعة لتحدي الوضع الراهن، وتصبح رحلتهما رمزًا للأمل والمقاومة في مواجهة حياة الزيف والخداع.
"الكهف" هي قصة الإنسانية بأوجهها المتعددة، ومرآةً تعكس الأسئلة والتحديات العميقة التي تواجهنا في عصرنا
"الكهف"، في جوهرها هي قصة الإنسانية بأوجهها المتعددة، من الأفراد العاديين المضطهدين من قبل حضارة زائفة، إلى الحضارة التي تتجاهل جوهر الإنسان. إنها تستكشف تعقيدات البشرية، وتقارن بين الضعف والقوة، والمرونة والاستسلام، والتحدي والقبول، رافعة راية النصر لاستمرار الروح الإنسانية، متحمِّلة صراع الحياة حتى نهايتها الحتمية.
يدعونا جوزيه ساراماغو إلى التعرف على الظلال التي تحجب رؤيتنا، والبحث عن الحقائق المخفية، واستعادة إنسانيتنا في عالم غالبًا ما يحجبها. "الكهف" ليست مجرد رواية، بل مرآة تعكس الأسئلة والتحديات العميقة التي تحدد عصرنا، وتوفر لنا فرصة للاستيقاظ من ظلال كهفنا.