"يابا أنت ليه مش عاوز تصدق أنك أعمى.. يا با أنت راجل أعمى".
"أنا أعمى يا غبي!؟.. ده أنا بشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة كمان".
يُعد هذا المشهد من فيلم "الكيت كات" أحد أشهر مشاهد السينما المصرية وأكثرها استعادةً من قِبل المشاهدين، من جميع الأجيال، الذين يحسدون الشيخ حسني الكفيف على حبه للحياة. فعلى الرغم من إصابته بالعمى، يتمتع الشيخ حسني بإحساس عميق بالحرية، مُتحديًا قيود مرضه الجسدي بحماس لا يمكن كبته للحياة. كما أنه لا يكتفي بذلك فقط، بل يُضفي على علّته طابعًا من السحر فيقول إنه منح عينيه قربانًا لجنية جميلة رآها، وعُوِّض عنهما برؤية حقيقية لأشياء تغيب عن المُبصرين من حوله.
لذا ليس من الغريب أن تبلغ رواية "أشباح مرجانة" (دار دون، 2024) للناقد والكاتب المصري محمود عبد الشكور ذروتها بمشهد من مشاهد هذا الفيلم، خاصةً أن روايته تقع أحداثها في التسعينات – ومُهداة إلى جيلها – وهي حقبة مليئة بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي لم يتعافى منها ذلك الجيل حتى الآن لدرجة أنه لا يزال يتصارع مع هويته ومفهوم الانتماء والحرية، بل وينقل حيرته إلى الأجيال التالية.
تتمثّل إحدى نقاط قوة "أشباح مرجانة" في تصويرها لشخصيات حية نجد فيها انعكس أنفسنا أو أشخاصًا من حولنا
كل هذا وأكثر يتضح مع رحلة "فؤاد عمار بهجت الساعاتي"، بطل الرواية الذي يعود من غربته في الإمارات ليُنهي إجراءات الميراث الذي حصل عليه من جده، ومن ضمن الميراث سينما قديمة باسم "مرجانة" يتفاجأ بالحديث عن شبح ما يسكنها. لكن رحلته للبحث عن ذلك الشبح سرعان ما تتحول إلى أخرى للبحث عن أشباح أسرته وماضيها.
وُلد فؤاد لأب وأم يساريين مُناضلين اهتما بقضايا الطبقية وهموم الفقراء أكثر من اهتمامهما بابنهما، وتسبب هذا الأمر في صراعات بين والد فؤاد وجدّه بسبب نظرتهم المختلفة للحياة، إذ يفتخر جد فؤاد بمكانته الاجتماعية ويؤمن بأهمية مراعاة الطبقات بين البشر، بينما يكرهها الابن ويتحداها. وبعد وفاة والديه، يُصبح فؤاد أقرب إلى الجد فيكره السياسة ويمقت التحليلات الاجتماعية والاقتصادية. لكنه بمجرد عودته إلى البلاد يجد نفسه في لُبّها لكونه عاد في وقتٍ تغيَّر فيه كل شيء.
يقدّم فؤاد نفسه للقراء بقوله: "أنا فؤاد عمار بهجت الساعاتي، الهارب من الوطن إلى الوطن، المعلق في الزمن والتاريخ والطبقة والحيرة والتشوش، ملك الحسابات والزوايا والمعادلات الهندسية، مشيد العمائر والأبراج، والذي لا يستطيع أن يتخذ قرارًا تافهًا، ولا يمكنه ترميم حياته، وريث بيت قليوب، وسينما الجيزة، وشقة السيدة، والمختبئ في أجساد النساء، فاقد الأمان والثقة والمعنى، العاري إلا من قلب وحيد مثقل بالخيبات، الباحث في مرجانة عن حلم مفقود، والمحارب بدون سيف أو دروع".
تتمثّل إحدى نقاط قوة الرواية في تصويرها لشخصيات حية نجد فيها أنفسنا أو أشخاصًا من حولنا، إذ نرى فؤاد منذ اللحظة الأولى مُشتتًا، لا يدري أيرغب في المكوث في مصر أم يعود إلى حياته السهلة المُريحة في الإمارات؟ أيبحث في دفاتر جده ويكتشف لغز مرجانة أم يبيع كل شيء ويرحل؟
يبحث فؤاد عن الإجابات من عم فرج حارس السينما القديم، ومن موريس صديق والده ومحامي العائلة، وأصدقائه القُدامى. وما يُزيد من حيرته هو وجود مؤسسة خيرية خفية تعمل على شراء السينمات القديمة وترغب كذلك في شراء مُرجانة وتُحوّيلها إلى شيء آخر.
وتُعبّر هذه المحاولة لشراء السينما عن واحدة من جوانب أزمة ذلك الجيل التي تتمثّل في انعدام الثقافة والذوق العام وتحريم الفن. ولهذا تمتلئ الرواية بإشارات للسينما والأدب والموسيقى، ما يجعل محاولة شراء مرجانة مع كل الاختلافات في المجتمع محاولة لكبت الجمال والتعبير الفني وخلق جيل أصم يحفظ ولا يفهم ولا يشعر.
لذا، وسط متاهات حياته ومتاهات مُرجانة، يجد فؤاد العزاء في جلسات الأصدقاء السابقين، مريم الصحفية القوية وصبري المُعذَب، اللذين ينخرط معهما في أحاديث عن الأشباح والأرواح والأحلام وكيف، بشكل أو بآخر، يتشابهون.
يجلس الثلاثة برفقة آخرين في سينما مرجانة بانتظار الشبح، ويسألون السؤال الأبدي: "ليه أحلامنا بتتحوّل كوابيس؟" ولا يجدون إجابة.
يقرر فؤاد في النهاية عدم بيع مرجانة، واعتبارها ملاذًا للأحلام والجمال والونس وحتى للأشباح. وفي تحية مؤثرة لروح الشيخ حسني، تنتهي الرواية على أصداء أغنيته التي يعتبرونها إكسيرًا لهزيمة العجز والنشيد الوطني لجيلهم، إذ خجلوا من اعتبار أنفسهم عاجزين بعدما رأوا الشيخ حسني الكفيف يحقق حلمه ويطير بالموتوسيكل