"إني أتغير من النقيض إلى النقيض فجأة". بهذه العبارة يُلخّص نجيب محفوظ قصة تشكيل بطل روايته "قلب الليل"، ورواية قلب الليل هي من تِلكَ الروايات التي يُمكن إدراجها ضمن التصنيف التي يُطلَق عليها في النقد الأدبي مصطلح رواية "التشكيل" (Bildungsroman)، ورواية التشكيل هي رواية لها عدة مسميات أخرى، فهي تُسمى أيضًا رواية التعليم أو رواية الثقافة، وإنّ رواية التشكيل هي رواية أدبية تقوم بتسليط الضوء على النضوج النفسي والأخلاقي لبطل القصة منذ الطفولة وحتى بلوغ سنّ الرشد، حيثُ إنّها تقوم بتسليط الضوء على أطوار النمو أو بلوغ سنّ الرشد عند شخص ما (بطل الرواية) يتمتّع بحساسية عالية ويمضي للبحث عن أجوبة لأسئلة الحياة التي تتكوّن لديه في مرحلة الطفولة، وتتطوّر معه في مرحلة المراهقة والبلوغ وقد ترافقه أحيانًا في مرحلة الشباب والكهولة.
تأتي رواية "قلب الليل" لتستعرض أحوال التشكيل لبطلها في مختلف مراحله العمرية، منذ مراحل طفولته الأولى، وحتى بلوغه الأطوار الأولى من سنّ الكهولة
تأتي رواية "قلب الليل" لتستعرض أحوال التشكيل لبطلها في مختلف مراحله العمرية، حيثُ تُخبر عن تنقلاته الفكرية منذ مراحل طفولته الأولى، مرورًا بمرحلتي المراهقة والشباب، وحتى بلوغه الأطوار الأولى من سنّ الكهولة.
تأتي أحداث رواية "قلب الليل" في شكل حوار سردي يجري بين بطل الرواية وصديقه المجهول في فترة زمنية تُعادل ليلة بطولها، يقوم فيها البطل بعرض أحوال حياته ومجرياته وتنقلاته الفكرية فيها لصديقه، ليخبره فيها بأنّها كانت عبارة عن رحلة بدأت من أحلام العفاريت وانتهت بحبّ الحقيقة، حيثُ كانت في جميع مراحلها انتقالًا من النقيض إلى النقيض.
يظهر بطل الرواية جعفر إبراهيم سيد الراوي في البداية جالسًا عند صديقه المجهول –بعد خروجه من السجن- في أثواب رثة وحال يُرثى لها، يستفسر منه عن أملاك جده التي تحوّلت إلى وقف خيري، ويسأله عن وسيلة لاستعادتها، فيُخبره صديقه بأنّ ما أصبح مُلكًا للدولة لا يُمكن استعادته، ثمّ يطلب منه أن يتقدّم بطلب إعانة شهرية من الدولة، فيرفض الراوي ذلك.
تنتقل الرواية بعدها إلى تناول ذلك الحوار الطويل الذي جرى بين جعفر الراوي وصديقه المجهول بعد أن تناولا عشاءهما في شارع محمد علي في القاهرة؛ ذلك الحوار الذي يُحاول فيه صديق الراوي أن يستوضح من صديقه حيثيات المآل الكارثي الذي وصل إليه، بسؤاله عن البدايات، عن أحوال نشأته وكيفية فقدانه لقصر جده وأملاكه حتى انتهى به الحال يتخبط في الشوارع نهارًا وينام في الخرابة (قصر جده سابقًا) ليلًا.
يبدأ الراوي في الإجابة على تساؤلات صديقه في المآل الذي وصل إليه قائلًا له: "دعني أحدّثكَ أولًا عن عهد الأسطورة"، وهنا يَسرد الراوي قصة تشكّله في عهد الطفولة عندما كان يعيش في كنف أبواه ورعايتهما قبل أن يتوفيا، حيثُ يُخبر صديقه بأنّه يُسمي طفولته بعهد الأسطورة، لأنّ تفكيره فيه كان ذاهبًا نحو تصديق الأساطير والخرافات حول الجن والعوالم الغيبية، فهو كان في ذلك العهد يؤمن بوجود الجنّ والكائنات الماورائية، وقد روى لصديقه كيفَ أنّ تلك الكائنات قد تبدّت له في ذلك العهد عدة مرات.
ينتقل الراوي بعدها بالحديث عن الطور الثاني في مراحل حياته، وهو الطور الذي انتقل فيه للعيش مع جده سيد الراوي، بعد وفاة أبواه عندما كان في الخامسة من عمره، يتحدّث الراوي عن الفرق الذي حدث في حياته جراء هذا الانتقال، وأنّه بدأ يتلقى مبادئ دين جديد غير الذي تلقاه عندما كان يعيش مع أبويه، حيثُ يقول: "لُقنتُ مبادئ دين جديد غير الذي تلقيته على يد أمي، دين المغامرة والأسطورة والمعجزة والحلم والشبح، أما هذا فدين يبدأ بالتعلّم والجدية، حفظ السور وشرحها، إلمام بالقواعد، ممارسة الصلاة والصيام، دين نظري وعملي، ومدرّس حاد يرفع التقارير لجدي أسبوعًا بعد أسبوع".
يُورد الراوي –ضمن إطار حديثه مع صديقه- بأنّ تلقيه مبادئ هذا الدين الجديد وتأثّره به قد استمرّ طوال فترة عيشه في قصر جده، وذلك لمدة أربعة عشر عامًا بدأ فيها بالتحوّل إلى مشروع شيخ، وأٌقبل على تلقي دراسته في جامع الأزهر، حيثُ بدأت تتشكّل ملامح الإنسان الإلهي التي طالما أراده جده أن يكون عليها، وذلك حتى جاءت تلك اللحظة التي أحدثت تحولًا جذريًا في حياته ونقلته من النقيض إلى النقيض، وكانت تلك اللحظة لحظة وقوعه في حبّ راعية الغنم الغجرية التي تُدعى مروانة، يصف الراوي تلك اللحظة بقوله: "لقد شعرتُ بأن شخصًا جديدًا يُبعث في مكاني، وسوف تُصدق أنه شخص جديد بكل معنى الكلمة، لا علاقة له بالشخص الميت، شخص جديد ثمل، يفيضُ قلبه بالأشواق والقدرة الخارقة على التحدي والالتحام".
يسمي بطل رواية "قلب الليل" طفولته بعهد الأسطورة، لأنّ تفكيره فيه كان ذاهبًا نحو تصديق الأساطير والخرافات حول الجن والعوالم الغيبية
يستكمل الراوي حديثه مع صديقه بتوضيح موقف جده من حبه لمروانة، حيثُ يوضّح بأنّ جده عارض فكرة حبه وزواجه من مروانة، وهو الأمر الذي دفعه إلى مخالفة أوامره وهجره والخروج من قصره وتزوج مروانة بعيدًا عنه (كان ذلك السبب وراء حرمان جده له من تركته كما حرمَ والده قبله)، ويُخبر الراوي بأنّ فترة زواجه من مروانة كانت هي فترة الجنوح التي ترك فيها الدراسة الأزهرية وعمل مغنيًا في فرقة إنشاد دينية، حيثُ إنّه كان في تلك الفترة يُكثر من شرب الخمر وتعاطي أنواع معينة من المخدرات (المنزول).
يُحدّث الراوي صديقه بأنّه رغم إنجابه لأربعة أبناء من مروانة إلا أنّ كمية الاختلافات العميقة بينهما دفعت به إلى قرار الانفصال عنها، وهو قرار تبعه حدوث تحوّل آخر جذري في حياته كانت سببه امرأة أيضًا تُدعى هدى هانم صديق. يتحدّث الراوي عن هدى، تلك المرأة المتعلّمة التي تكبره بعشر سنوات، ويصفها بالمنقذة لأنّها أرشدته إلى طريق العقل وقادته إليه، حيثُ يقول: "لقد اكتشفتُ عالم العقل فجأة ففتنت به، وأيقنت أنني كنت أغامر في خواء، وأني مدعو الآن حقًا للمغامرة في عالم الفكر، هذه هي المغامرة الحقة".
يُبيّن الراوي بأنّ هدى قد أقنعته بأن يُكمل دراسته حتى البكالوريا ثمّ يتخصّص في إحدى الدراسات العليا، وهو ما تمّ له بالفعل، حيثُ تحصّل على درجة الليسانس في الحقوق، ويوضّح الراوي بأنّ هدى كانت السبب وراء دخوله إلى عالم السياسة والتقائه بسعد الكبير، وهو الأستاذ الذي كان يحترمه الراوي ويقدّره كثيرًا، لولا ذلك الخلاف الفكري الذي وقع بينها وكان له الأثر في انتقال الراوي مرة أخرى من النقيض إلى النقيض.
وفي هذا الصدد، يُخبر الراوي بأنّه لم يكن على وفاق مع المذهب الماركسي، الذي يتبناه سعد الكبير ويدعو إليه كمذهب من شأنه تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، ويوضّح بأنّه لم يكن مقتنعًا بأي مذهب من المذاهب التي سادت منذ عهد الإقطاع وحتى الشيوعية، وأنّه كان يرى بأنّها جميعها مذاهب قاصرة عن تحقيق المطالب الإنسانية في الحرية والعدالة الاجتماعية، وأنّه قام بالاجتهاد وتأليف مذهب يَجمع ويُوافق بين جوانب أساسية من هذه المذاهب جميعها.
يحدّث الراوي بأنّ المأساة الكُبرى في حياته حدثت يوم أراد فيه أن يعرض مذهبه الجديد على سعد الكبير، حيثُ قام سعد بالطعن في مذهب الراوي ونعته بأنّه محض هراء فارغ، وهو الأمر الذي أدى إلى إصابته بنوبة غضب شديدة لم تنتهِ إلا بمشهده وهو يغرس النصل في عنقِ سعد، ليصدر بعدها صوت ما داخله، يهتف مذبوحًا: "يا عقلي المقدس، لماذا تخلَّيت عني؟".
ولربّما أنّ الهتاف الأخير الذي انبثق في داخل جعفر يأتي بما يُشير إلى خطورة التحوّلات الجذرية التي يتنقّل بينها الإنسان من النقيض إلى النقيض، فهذه التحوّلات رغم أنّها تكون في بعض الأحيان صحية جدًا لأنّها تقود الإنسان إلى درب الاستقرار الفكري الذي لا يأتي إلا بعد فترات زمنية طويلة، يقضيها الإنسان باحثًا عن الحقيقة بين المذاهب والمعارف الإنسانية الكبرى، إلا أنّها في أحيان أخرى قد تكون تحوّلات متطرّفة ومدمّرة للإنسان، خصوصًا إذا كانت تأتي كنتيجة تابعة لتحوّلات على صعد أخرى، وإنّه يُمكن القول، ضمن هذا الإطار، بأنّ التحوّلات الفكرية التي شهدها الراوي في رحلة تشكيله هي تحولات جاءت استجابة لتحولات أخرى حدثت له على المستوى العاطفي، فحبّ الجدّ أو المرأة (مروانة وهدى) في حياته كان هو السبب وراء التحوّلات الفكرية التي شهدها، فهي تحولات لم تحدث له إلا لرغبته في تحقيق انسجام مع شكل حياة فرضها عليه شخص آخر يُحبّه، وهو الأمر الذي أدى إلى وجود هذه التحولات جميعها ضمن دوائر الهشاشة والتغيّر المستمّر، وقاد نحو وصولها إلى لحظة الهدم الأخير، تلك اللحظة التي انهارت فيها تلك التحولات وتخلى فيها العقل عن صاحبه مرة واحدة، هكذا، لينقله إلى نقيضه؛ إلى الغريزة وما فيها من استجابة لسلوكيات إجرامية بدائية تبتعد عن كلّ منطق عقلي ممكن.