"قناع بلون السماء" (دار الآداب، 2023) للشاعر والروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي، قصة "نور مهدي الشهدي"، الشاب الفلسطيني الذي ولد وعاش في أحد مخيمات رام الله، ويسعى إلى كتابة رواية عن مريم المجدلية يردّ فيها على رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون، التي انتزعت المجدلية من سياقها الجغرافي الفلسطيني وألقت بها في السرديات الغربية.
وفي سبيل كتابتها، كان يريد الوصول إلى مدينة مجدو المحتلة ودخول المستوطنات اليهودية، التي لا تسمح لأمثاله بالدخول إليها. وهنا يتدخل القدر ويعثر نور على بطاقة هوية إسرائيلية زرقاء تعود لشاب إسرائيلي يُدعى "أور شابيرا"، ويُقرّر استخدامها للدخول إلى الأراضي المحتلة، وينجح لأن ملامحه تشبه ملامح اليهود الأشكناز، عدا عن أنه يتقن العبرية والإنجليزية بفضل عمله مرشدًا سياحيًا، ومن ثم باحثًا في التاريخ والآثار.
يتمكَّن نور بعد ذلك من الانضمام إلى بعثة تنقيب أثرية في إحدى المستوطنات، لكن مع مرور الوقت، يبدأ نور بالصراع مع هويته، ويشعر بالانقسام بين هويته الفلسطينية الحقيقية، وهوية "أور" المستعارة.
تلخّص معركة نور بين هويته الحقيقية وتلك المستعارة ما يعانيه الفلسطينيون للحفاظ على هويتهم ووجودهم ولغتهم ودينهم في ظل الاحتلال
ومن خلال هذه الحكاية، يتناول خندقجي، ببراعة، موضوعات الهوية، والاغتراب، والرغبة في الانتماء، مضيئًا على العواقب العميقة للحياة في وطن مزقته الحروب. ولذلك يبدو أن سعيه لتحقيق مساعيه الأدبية يمثل محاولة شخصية للتعبير الإبداعي ومقاومة رمزية ضد الاستيلاء الثقافي، والبحث عن الأمل والخلاص. ولا يمكن فصل رحلة نور عن تجربة الكاتب نفسه في سجون الاحتلال، التي خرجت تلك الرواية من خلف قضبانها المجازية والحقيقية.
وما يعزّز الانطباع السابق هو مراد، صديق نور الأسير في سجون الاحتلال كذلك، والذي يسجل له نور رسائل صوتية يحدّثه فيها عما توصل إليه بخصوص روايته عن مريم المجدلية، وما يفعله في حياته اليومية، كما يعتذر عن إخفاء هويته لأنه يعلم أن صديقه لن يوافق على ذلك.
يحسد نور صديقه مراد على سجنه لأنه واضح المعالم، مُكوَّن من سجن وسجين وسجان. ومع ذلك، قد يبدو مراد أكثر حرية لأنه حصل من سجنه على درجة البكالوريوس والماجيستير، ويعمل بجد على فضح الصهيونية وممارساتها.
طوال القصة، تؤكد تفاعلات نور مع مراد على الجوانب المتناقضة للحرية والأسر. فبينما يجد مراد الحرية الفكرية داخل حدود زنزانته في السجن، ويكتسب المعرفة ويدافع عن المقاومة وعن الحق الفلسطيني في الوجود؛ يتصارع نور مع أعباء الاختيار ومفهوم الهوية، والسجن، والهوس بتفصيلة صغيرة في رواية، وهذا ما لم يم يفهمه صديقه مراد.
رفض نور أن يشوه دان براون قصة مريم المجدلية، لكن أليس ذلك ما يفعله الغرب مع فلسطين؟ يشوهون الحقيقة ويفرضون عليها تخيلاتهم؟ يبدو إصرار نور كمحاولة للمقاومة، لكن محاولة صامتة أو خافتة تشبه صمت والده المناضل الثوري الذي قضى 5 سنوات في السجن الصهيوني، ثم تعرض للخيانة من أصدقائه فلجأ إلى الصمت والاكتفاء ببيع الشاي والقهوة على باب المخيم.
يلتقي نور في بعثته بـ"سماء"، وهي فتاة عربية فلسطينية تنحدر من حيفا، والتي، على عكس نور، تنظر إلى بطاقة هويتها الإسرائيلية بوصفها عبئًا وعارًا يجب التخلص منه، وتقدم نفسها بفخر على أنها فلسطينية من حيفا، وتدين سماء بشدة الصهيونية وفظائعها أمام الجميع من دون خوف، وترفض أن يتم تعريفها بقطعة من الورق بينما تحافظ بثبات على هويتها الداخلية. وبدت سماء في الرواية وكأنها صفعة على وجه نور تحذره من أن يُسيطر عليه "أور" وتختلط الهويات بينهما.
وعبر هذا الاندماج بين نور مع هوية أور شابيرا، يتعمق خندقجي في التعقيدات الأخلاقية للبقاء في الأراضي المحتلة، متسائلًا عما إذا كان ارتداء قناع الظالم يعد عملاً من أعمال الخيانة أم وسيلة للصمود؟ هل يرتقي تصرف نور إلى مستوى الانتقام وأخذ الحق المسلوب أم تطبيعًا؟ تقدِّم الحوارات المتخيلة بين نور وأور إجابات على هذه الأسئلة، كما تبدو استكشافًا مؤرقًا لهذه المعضلة الأخلاقية.
والصراع الذي يجسده بطل الرواية يتجاوز حدود الصراع الشخصي، فهو تصادم بين الروايات والهويات واغتصاب الأرض والتراث. ولذلك فإن معركته مع ثنائية نور وأور تلخص، في جانب منها، ما يعانيه الفلسطينيون للحفاظ على هويتهم ووجودهم ولغتهم ودينهم وسط الحقائق القاسية للحياة تحت الاحتلال.