بدأت دراسات الانتقال الديمقراطي تأخذ حيزًا مهمًا من نقاشات الأكاديميا العربية في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد الثورات العربية 2011. لكن مشكلة تلك النقاشات هو قيامها غالبًا بعملية إسقاط ميكانيكية لنتائج دراسات الانتقال الديمقراطي المنجزة حول بعض البلدان الأوروبية وأمريكا اللاتينية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، على الحالة العربية، دون مراعاة خصوصية هذه الحالة. وهو ما أدى عمليًا إلى غياب مساهمات ذات خصوصية عربية في هذا الحقل المعرفي، وذلك بالرغم من وجود مختبر عربي كبير يحتوي على حالات مميزة يمكن أن تقود دراستها إلى استنتاجات عربية خاصة في مجال نظريات الانتقال الديمقراطي التي هي بالدرجة الأولى نظريات إقليمية لا تصلح استنتاجاتها للتعميم.
استعرض عزمي بشارة أهم الخلاصات التي توصلت إليها دراسات الانتقال الديمقراطي على صعيد العوامل المفسرة للانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي
ذلك ما نبّه إليه بشكل دقيق المفكر العربي عزمي بشارة في محاضرته التي ألقاها يوم الأربعاء 9 تشرين الثاني/أكتوبر 2019 في مبنى معهد الدوحة للدراسات العليا والتي جاءت تحت عنوان: "الانتقال الديمقراطي: إشكالات نظرية وتجارب عربية". ومن المنتظر أن يصدر كتاب جديد للدكتور عزمي بشارة حول هذا الموضوع بالذات، وذلك لسد العجز في التنظير للديمقراطية عربيًا بالرغم من دقة المرحلة المصيرية التي يمر بها العالم العربي على صعيد المسألة السياسية وفي القلب منها مسألة الديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: قراءة عزمي بشارة من السودان.. العامل الخارجي والمسار الديمقراطي
انتظمت محاضرة بشارة التي استمرت طيلة ساعة وعشرين دقيقة في قسمين:
القسم الأول كان بمثابة اشتباك نقدي مع دراسات ونظريات الانتقال الديمقراطي بدءًا بنظريات التحديث في خمسينات القرن الماضي وصولًا إلى مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي الذي انطلق في العام 1986، وإن كانت جذوره تعود حسب عزمي بشارة إلى سنة 1970 مع مقال كتبه دانكوارت روستو انتقد فيه طروحات نظريات التحديث حول الديمقراطية.
أما القسم الثاني فقد خصصه بشارة للدروس المستخلصة من حالة الانتقال الديمقراطي عربيًا.
مسألة الغائية في دراسات الديمقراطية
يتّهم البعض دراسات الديمقراطية بالافتقار للموضوعية العلمية، وذلك لأنها تجعل نُصب عينيها هدفًا محددًا وهو الديمقراطية ذاتها، أي أنها تجعل من الديمقراطية غاية لها. هذه القصدية أو الغائية في دراسات الديمقراطية كانت أول ما تطرق له بشارة في محاضرته، نافيًا أن يكون هنالك تعارض بين الغاية الديمقراطية المصرّح بها وعِلْمية حقل دراسات الديمقراطية. فعِلمية المعرفة لا تتحدد بغايات العالِم وإنما بالمنهج الذي يُوظفُه على حد تعبير المفكر العربي. وبالتالي فالنقد الموجه لدراسات الديمقراطية ينبغي توجيهه للمنهج المستخدم وليس إلى الغايات التي تسعى لتحقيقيها، من هذا المنطلق لم يجد رواد دراسات الديمقراطية حرجًا في التعبير الصريح عن تحيزهم للديمقراطية والقول صراحة بأن هدفهم النهائي هو التخلص من الاستبداد والسلطوية.
دراسات الانتقال الديمقراطي
يُعتبر مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي أهم مشروع علمي في دراسة تجارب الانتقال إلى الديمقراطية من وجهة نظر عزمي بشارة، وقد انطلق هذا المشروع في العام 1986 في جون هوبكنز ومركز بروكنجز من خلال دراسة التحولات في أمريكا اللاتينية، وقد جاءت هذه الدراسات ردًّا على نظريات التحديث التي ركّزت على الشروط البنيوية مثل العوامل الاقتصادية والاجتماعية في مسألة الديمقراطية، فنظريات التحديث تعتقد أنه من دون توفر شروط قبْلية مثل التنمية ونضوج الثقافة السياسية والتحديث الاقتصادي، لن يكون من الممكن الحديث عن الديمقراطية، وقد اعتُبرت هذه الشروط القبْلية، من طرف دانكوارت روستو وغييرمو أودونيل وفيليب شميتر، شروطًا تثبيطية، لأن أصحابها يقولون صراحة إنه يجب الانتظار وقتًا طويلًا قبل التطلع إلى الديمقراطية. وفوق ذلك حجبت هذه الشروط المسبقة مباشرة العوامل المهمة في تفسير غياب الديمقراطية.
هذا المدخل قاد الدكتور عزمي بشارة إلى استعراض أهم الخلاصات التي توصلت إليها دراسات الانتقال الديمقراطي على صعيد العوامل المفسرة للانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي والأسباب التي تقف وراء نجاح أو انتكاس النماذج الديمقراطية. دون أن تكون النتائج التي تم التوصل إليها في تلك الدراسات قابلة للتعميم على حالات أخرى في سياقات مختلفة.
حسب عزمي بشارة فإن الأطروحة الأساسية لاتجاه ما بعد نظريات التحديث تتمثل في التركيز على العنصر السياسي في تفسير الانتقال الديمقراطي على حساب العوامل الاقتصادية والاجتماعية، لأن العناصر السياسية حسب هؤلاء تساعد في تحفيز عامل الإرادة البشرية لإسقاط السلطوية.
في هذا الإطار ركّز بشارة على مناقشة طروحات واستنتاجات كل من دانكوارت روستو ورموز قادة مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي مثل غييرمو أودونيل وأبراهام لوفنتال وفيليب شميتر وخوان لينز وألفرد ستيبان وآرتورو دفنزويلا.
حاول هؤلاء الإجابة عن سؤال رئيسي وهو: كيف يحدث الانتقال الديمقراطي؟ وبناء على الحالات التي تناولوها انصب تركيزهم على أهمية العامل البشري في عملية الانتقال الديمقراطي، وعند الحديث عن العامل البشري فالمقصود هو النخب باختلافها والفاعلون السياسيون، فمن دونهم يغدو من الصعب الحديث عن إمكانيات حقيقية للانتقال الديمقراطي.
تفترض هذه الأدبيات أن المحرك لعملية الانتقال الديمقراطي هو القيام بإصلاحات سياسية تؤدي إلى نشوب خلافات داخل النخبة الحاكمة، من شأنها أن تقود إلى احتجاجات تضغط لتعميق الإصلاحات. ولذلك يعتقد دانكوارت أن من الشروط الأساسية للانتقال الديمقراطي وجود صراع بين نخب قادرة على المساومة والوصول لإجراءات تعمل على حل الصراع وإدارته بوسائل سلمية، وفي هذه اللحظة بالذات يبدأ مسار الانتقال الديمقراطي من وجهة نظر عزمي بشارة. في المقابل يعتقد أيضًا خوان لينز وألفريد ستيبان وآرتورو دي فنزويلا أن انهيار الأنظمة الديمقراطية لا يمكن فهمه إلا بسوء تصرف النخب السياسية، ويقدمون مثالًا على ذلك تجارب من بلدان أوروبا الشرقية وتجربة انهيار ديمقراطية تشيلي في ظل حكم سلفادور أليندي.
إحدى القواعد المهمة التي توصل إليها كل من فيليب شميتر وغييرمو أودونيل تقول بأن الطريقة الأكثر نموذجية في عملية الانتقال الديمقراطي تتمثل في اتفاق المعتدلين في المعارضة والنظام، لأن أفضل التسويات هي تلك التي تعزل المتطرفين.
وقد صاغ الدكتور عزمي بشارة هذا الاستنتاج في المقولة التالية: "العب بحذر، واطرح مطالب معتدلة، واقبل بالتدرج، وتعاون مع المعتدلين في النظام" من أجل انتقال متدرج وواثق للديمقراطية.
هذه أهم الاستنتاجات التي خلصت إليها دراسات الانتقال الديمقراطي، وهي استنتاجات بالرغم من قيمتها إلا أنها لا تعتبر بحال من الأحوال دليل عمل قابل للتطبيق في دراسة وتفسير كل حالات الانتقال الديمقراطي، وإنما تظل بنت سياقها السياسي الذي أُنتجت فيه وعبرَه، وهذا ما يطرح بشكل جاد سؤال أين هي المساهمات العربية في هذا الصدد؟
المختبر العربي الكبير: نحو استنتاجات عربية
بخلاف ما روّجته دراسات الانتقال الديمقراطي من كون الإصلاحات تؤدي إلى حدوث شرخ داخل النخبة الحاكمة، فإن الإصلاحات التي شهدتها البلدان العربية منذ الثمانينات والتسعينات لم تؤد إلى أي انقسام في النخبة الحاكمة، باستثناء حالة الجزائر التي انتهت إلى انقلاب الجيش على مسار عملية ديمقراطية. فالإصلاحات التي اتُّخذت في البلدان العربية ظلّت إصلاحات شكلية متحكّم فيها ومتوافق عليها من طرف النخبة الحاكمة.
لا يتوقف بشارة عند هذا الاستنتاج التاريخي المهم بل يعضّده باستنتاج آخر يقلب رهان دراسات الانتقال الديمقراطي على الإصلاحات رأسًا على عقب، وهو أنه في الحالة العربية وقع العكس، حيث قادت الثورة وليست الإصلاحات إلى شق النخبة الحاكمة، وتحديدًا الكيفية التي رد بها النظام على الثورات، حيث شهدنا عصيان الجيش المصري للأوامر لكن مع تطوير أجندة سياسية خاصة به، والأهم عصيان الجيش التونسي لأوامر إنقاذ النظام من دون أن تكون للجيش التونسي أجندة سياسية خاصة. ويَعتبر عزمي بشارة أنه من دون هذين الموقفين كان من الصعب تصور نجاح الثورة. يضاف إلى ذلك خاصية أخرى وهي تلاحم الجيش مع النظام في بعض حالات الثورات العربية والاعتماد على القوة القمعية بطريقة مفرطة، وهذه الخاصية لم يتم تناولها في مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي. وتعتبر الحالة السورية أبرز مثال يمكن استحضاره في هذا الصدد.
ميزة أخرى ميّزت الثورات العربية حسب بشارة وهي كونها ثورات إصلاحية لا تطرح بديلًا جاهزًا، بل جعلت الباب مفتوحًا لكل الاحتمالات، وهذا ما يجعلها في حالة تصالح مع الديمقراطية.
بعد تقرير هذه المميزات أو الملاحظات تناول عزمي بشارة بالتحليل والمقارنة كلا من حالة ليبيا واليمن وسوريا ومصر وتونس، لاستنتاج ما أسماها الدروس العربية في مسألة الانتقال الديمقراطي.
الحالة الليبية حسب بشارة تميزت بغياب شرط أساسي للانتقال الديمقراطي وهو شرط الإجماع على الدولة، فما تزال العصبيات القبلية والمناطقية أقوى في وجدان الناس، يُضاف إلى ذلك ضعف مؤسسات الدولة الليبية، فطيلة أربعين سنة من حكم معمّر القذافي عرفت ليبيا حالة مستمرة من تدمير وتقويض مؤسسات الدولة، ولذلك كانت خطوة القيام بانتخابات بعد الإطاحة بنظام القذافي خطوة خاطئة حسب بشارة، ويعود هذا الهوس بالانتخابات في وجه من وجوهه إلى ضغط مارسته أطراف خارجية وجمعيات غير حكومية تعمل على تطبيق ميكانيكي لدراسات الانتقال الديمقراطي.
أما الحالة اليمنية فلا يمكن تفسير إعاقة التحول الديمقراطي فيها بمعزل عن العامل الخارجي، الذي حول اليمن إلى ساحة معركة بين فاعلين إقليميين، وفي سياق الحديث عن تأثير العوامل الخارجية على نطاق أوسع من حالة اليمن وحالة بلدان الثورات العربية، نبّه عزمي بشارة إلى ملاحظة غاية في الأهمية وهي أنه في المنطقة استمر الغرب في التفكير بالعالم العربي بمنطق الحرب الباردة، في ظل وجود إسرائيل وصعود ما تسمى الحرب على الإرهاب ورهاب الإسلام، حيث جعلت هذه المعطيات الغرب مستعدًا لقبول الأتوقراطيات العربية على ما هي عليه مع هامش ضئيل من الحريات السياسية.
في الحالتين المصرية والتونسية حاول بشارة طرح فرضية جديدة لتفسير لماذا نجحت تونس وأخفقت مصر في الانتقال الديمقراطي؟
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: آن أوان التحول الديمقراطي وبذور الحرية في كل مكان
توصّل بشارة إلى أنّ تفسير ما حدث في مصر وتونس بناء على معطيات تتعلق بحجم الطبقة الوسطى أو مستوى انتشار التعليم والعوامل الاقتصادية لا تفيد كثيرًا نظرًا للتقارب القائم بين البلدين في هذه المجالات، ولذلك يجب حسب بشارة تحييد شروط نظرية التحديث عند تناول الحالتين المصرية والتونسية، والتركيز بدلًا من ذلك على العوامل السياسية والفاعلين السياسيين: أي الفرق بين النخب وقدرة هذه النخب على المساومة، هذا إضافة إلى الفرق بين المؤسستين العسكرية المصرية والتونسية، وفرق ثالث يتمثل في الأهمية الجيواستراتيجية المختلفة للبلدين.
بخلاف ما روّجته دراسات الانتقال الديمقراطي من كون الإصلاحات تؤدي إلى حدوث شرخ داخل النخبة الحاكمة، فإن الإصلاحات منذ الثمانينات والتسعينات عربيًا لم تؤد إلى أي انقسام في النخبة الحاكمة
تمثل هذا الاستنتاجات إضافة عربية مهمة في دراسات الديمقراطية لا تقل شأنًا عن الاستنتاجات التي توصل إليها القائمون على مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي الذي انطلق ثمانينات القرن الماضي وحاول بعض الباحثون في العلوم السياسية جعله برادايغم في دراسة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، في الوقت الذي يَظهَر عجزه جليًا عن فهم وتفسير حالة مثل حالة الانتقال الديمقراطي عربيًا بعد ثورات الربيع العربي.