أحدثت مقابلة المغني السعودي محمد عبده الأخيرة، بما جاء فيها من حديث عن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، بعض الضجة، نظرا للضحالة الشديدة التي تحدث بها عبده عن السياب، ولتهافت المعلومات التي قدمها عنه وعن قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر". ورغم تدنّي مستوى المقابلة، التي تعرّضت لنقد مفصّل من ابن الشاعر، غيلان السياب، في حسابه على "تويتر"، إلا أنني كنت سعيدًا بها لسببين.
الطريقة الحرفية الساذجة التي قرأ بها عبده بعض أسطر "أنشودة المطر" تدلّ تحديدا على أن السياب أصبح قاموسا للعراق، نبحث في ثنايا نصوصه عن تأويل لمناسبة هنا، أو قصة هناك.
السبب الأول هو أن المقابلة كشفت تحول السياب وقصيدته من أحداث تاريخية إلى كائنات أسطورية، تتكاثر حولها القصص، صحيحها وباطلها، وتلعب المخيلة البشرية دورا كبيرا في محاولة فهمها. الكائنات الأسطورية، كعنترة بن شداد، والمتنبي، وهارون الرشيد، وأبي نواس، وغيرهم ممن يحفل بهم تراثنا العربي، هي تلك الشخصيات التي تجاوزت بشهرتها وتعدد الروايات حول أفعالها ومآلاتها قدرة الباحث التاريخي على تحديد الحقيقة والخرافة في حياتها. رغم الحضور الهائل للمتنبي في التاريخ العربي، مثلا، فنحن حتى اللحظة لا نملك جوابا قاطعا حول قصة لقبه هذا، ومتى سمّي به، وما أصل التسمية. ثمة آراء، وتناقضات، وروايات، ولا مجال لتأسيس الحقيقة.
حين سمعت مقابلة عبده أدركت أن السياب في مخيلته، وربما في مخيلة الكثيرين، أصبح فضاء واسعا يمكن أن نضع فيه تاريخا كاملا متناقضا للعراق الحديث، دون أن يكون في حياة السياب نفسها ما يؤكد ذلك. أصبح السياب مظلة، خيمة، مجازا، لكل شيء عراقي، ولكل تناقض عراقي، ولكل مأساة عراقية، والطريقة الحرفية الساذجة التي قرأ بها عبده بعض أسطر "أنشودة المطر" تدلّ تحديدا على أن السياب أصبح قاموسا للعراق، نبحث في ثنايا نصوصه عن تأويل لمناسبة هنا، أو قصة هناك.
السبب الثاني هو أن المقابلة، وحديث عبده الساذج عن "أنشودة المطر"، قد أعاداني، وربما أعادا غيري من المشاهدين، إلى لحظاتنا "الساذجة" نحن القرّاء في لقائنا الأول مع هذه القصيدة الهائلة. في حالتي تحديدا، وقعت تلك اللحظة أثناء المرحلة الثانوية في الأردن، إذ احتوى كتاب اللغة العربية على نص "أنشودة المطر"، وكنا مطالبين وقتها بتحليل القصيدة وفهمها تحضيرا لامتحان التوجيهي الأردني.
كنت متشبعا بالشعر العربي الكلاسيكي في تلك المرحلة، ولم يكن الشعر الحديث، بأنواعه من تفعيلة وقصيدة نثر وسواهما، قد دخل عالمي. كنت قد سمعت بالسياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور لكنني لم أكن قد قرأتهم بعد، وظل محمود درويش استثناء، نظرا لطبيعة شعره القومية، وبالمجمل فقد كانت علاقتي الوطيدة بالتراث الشعري دافعا لرفضي الاقتراب من المدونة الحديثة.
شكلت "أنشودة المطر" في تلك المرحلة عبئا كبيرا على ذائقتي الشعرية، إذ لم أفهمها مطلقا، ورأيتها دليلا إضافيا على صحة موقفي من الشعر الحديث وطلاسمه. ورغم إحساسي بجمال بعض الأسطر في القصيدة، إلا أنني بقيت بعيدا عن إدراك روحها العامة، والربط بين عناصرها، وكنت أبدي تعجبي من شهرتها، وانزعاجي من مؤلفي الكتب المدرسية الذين يفرضون علينا نصوصا لا يمكن سبر أغوارها.
احتجت إلى بعض السنوات الجامعية، وحصيلة ثقافية متزايدة، وإلى أستاذ فهيم بالشعر وعوالمه كي أجدّد لقائي بـ"أنشودة المطر". وقع هذا أثناء دراستي للأدب العربي في الجامعة الأردنية، وتحديدا في مادة درسناها مع الكاتب الكبير الدكتور وليد سيف. لا أذكر الآن السبب الذي جعل الدكتور يقرأ معنا "أنشودة المطر"، لكنه، خلال نصف ساعة فقط، قدّم إلينا ما كنت أحتاجه تماما لاقتحام القصيدة. تحدث الدكتور عن مفاتيح القصيدة التي تربط بين عوالمها، وحدد ذلك، ببساطة، في المطر بوصفه مصدرا للتناقضات في حياة البشر، وكيف وظف السياب ذلك في خلق حالات الصراع المتعددة التي يحفل بها النص.
عدت للقصيدة، وبدأت أقرأ، وما كان يظهر لي سابقا بوصفه طلاسم وغموضا بدأ يتفكّك عبر العيون التي زوّدني بها وليد سيف لقراءة النص. فجأة ظهرت الأشياء بصورة أخرى. بدأ النص يتراقص أمامي. بدا لكل شيء معنى. رأيت السياب يبتسم، لي شخصيا، بين ثنايا نصه، وكأنه كان سعيدا لأنه قد كسب عاشقا جديدا. ظللت أعيد القراءة، متسائلا عن السبب الذي جعل كل هذه التأويلات تغيب عني في الماضي. قراءة "أنشودة المطر" ثانية شكّلت، بالنسبة لي، دليلا على نضجي. كانت حالة تشبه ما يصفه الأنثروبولوجيين بـ"طقوس العبور" Rites of Passage، وهو المصطلح المستخدم للإشارة لانتقال الإنسان من حالة اجتماعية إلى أخرى، كالانتقال من الطفولة إلى البلوغ. "أنشودة المطر" كانت الجسر الذي ربط بين تعلّقي بالشعر القديم وانفتاحي التدريجيّ على الحديث.
بين الأمل وخيبته، بين العدالة والظلم، الثورة والطغيان، الحياة والموت: بين العراق وكل شيء آخر. هذه هي أنشودة المطر. يلتقط السياب ثنائية المطر مصدر الحياة والخصب، والمطر مصدر الدمار والفيضانات والخراب: تلك هي حالة السياب وقت كتابة النص، وتلك هي حالة المطر في النص نفسه:
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى، هو المطر,
حيثما تلتفت في النص، فثمة صراع بين المتضادات. حتى عينا المحبوبة اللتان يبدأ السياب بهما تخلقان آثارا متناقضة في نفسه، فهما "تبسمان"، لكنهما "تغرقان في ضباب من أسى شفيف". لا يترك السياب صورة متفائلة إلا ويتبعها مباشرة بنقيضها: الأمل وغيابه معا. ما إن:
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار
كأنها تهمّ بالشروق
حتىّ، وفي السطر التالي مباشرة:
فيسحب الليل عليها من دم دثار
هذا الصراع المتغلغل في النصّ يترك أثرا في ظواهر الطبيعة نفسها. صدى الصوت يتحالف مع الصراع ويصبح جزءا منه. لا يعود الصدى نسخة متطابقة من الأصل، بل هو الأصل ناقصا عنصر التفاؤل فيه، كما يظهر في المقطع الشهير:
أصيح بالخليج: "يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى!"
فيرجع الصدى، كأنه النشيج:
"يا خليج، يا واهب المحار والرّدى"
تبدو "أنشودة المطر"، في نهاية المطاف، قصيدة بسيطة حقا. قصيدة بريئة ذات فكرة طفولية: الحياة صراع بين الحق والباطل، الخير والشر، ورغم الكآبة التي تحفل بها أشعار السياب، إلا أنه ختم قصيدته هذه بحتمية انتصار المعذبين والمظلومين: "في عالم الغد الفتيّ واهب الحياة: ويهطل المطر". دهشة القصيدة ومتعتها هي هذه اللوحات العجيبة التي يرسمها السياب وصولا إلى فكرته الأساسية، وتلك الغنائية العذبة التي تلاحق صور المطر وقطراته، قطرة قطرة، رابطة إياها بعناصر طبيعية جديدة على القصيدة العربية في ذاك الوقت. كيف يمكن لعربي عاشق للشعر ألا يذوب وهو يقرأ هذا الشيء الجديد:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟
بلا انتهاء، كالدم المراق، كالجياع
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى
هو المطر
في سابقة قلّ نظيرها في الشعر العربي، سيصبح شاعر عربي معيّن بطاقة تعريف جديدة لظاهرة طبيعية معيّنة. لا يذكر المطر، إبداعيا، إلا ويذكر معه السياب، ولن يعود مطر العرب، بعد السياب، كما كان قبله. كلما نزل المطر، نزلت معه قطرات السياب في آذاننا. ليس ثمة مطر عربي دون السياب. وكما أن السياب أنهى نصه بنبوءته المتفائلة "ويهطل المطر"، فإن القصيدة العربية، منذ أنشودة المطر، وهي تهطل بالسياب وسحره.
سيبقى السياب، ما بقي المطر العربي.