كتاب بلال خبيز الجديد "العالم وهو يهجرنا" الصادر عن "دار النهضة العربية" حديثًا، هو الأخير في سلسلة بدأت من "في أن الجسد خطيئة وخلاص"، إلى "الصورة الباقية والعالم الزائل"، ثم "العولمة وصناعة الأحداث الزائلة"، ومؤخرًا "التقدم نحو الكارثة".
يكتب بلال منطلقًا من الجسم المديني المعولم بوصفه مختبرًا يوميًا للسلطات وهي توغل في تشكيله ونحته وإرغامه على أن يكون جسدًا عامًا خالي الخصوصية
نتاج بلال الأخير هذا هو امتداد لتلك القراءات المتتابعة في سلسلة مشاهدات تمتد على مدى عقدين ونيف من الزمن. وهذا الكتاب يطرح مشاهدات تنطلق من أفول عالم مضى، كان لبلال ولنا فيه حياة. والانصراف هنا ليس طوعيًا، بل طردًا عاصفًا لآمال أجيال وأفكار كانت تتخذ من الدولة مفهومًا، تريد بناءه والدفاع عن مجتمعاته. غير أن تغوّل الشركات الخاصة والعابرة للحدود، وميزانياتها المالية الضخمة التي تفوق ميزانيات دول وشعوب عدة، يجعل من أدوات التفكير والنظر في تحقيق ما تصبو إليه الأفكار التغييرية، أكانت يسارية أم يمينية، أشبه بالتكرار الممل والنباح تحت غير شجرة.
انطلاق بلال من أفول الدولة بشكلها الذي نعرفه هو تقديم لاستحالة التغيير، استحالة بتنا نراوح فيها منذ عقود وتتأزم تباعًا في حاضر يتمدد في يومياتنا ويجفف الكسل والدعة. وعسف هذه الشركات وتقنياتها بات يحدد وجه يومياتنا عبر برامج وأنساق باتت تهيمن على الخيال وعلى تصورنا لأنفسنا. ومع هذا تذوي فكرة التمثيل والحق في الاختيار والمشاركة في صنع القرار التي قامت عليها الديمقراطية. فالحياة في هذه العوالم باتت تستند إلى التخيير بين بدائل مفروضة، لا مفر من استهلاكها والخضوع لمترتباتها كسلطة محكمة لا بديل عنها.
مشاهدات بلال هي لغة حواس تحاول أن تفك أسر الجسم من سطوة الصورة المعولمة الموغلة في تقانتها، وفي إحداث العطب في وعي البديهيات. فلغة الحواس هذه التي يستنطقها الكتاب، هي تدوين ملاحظات عن الأنساق التي تتغوّل لتصبح هويات صلبة تبتلع الجسم ويومياته في نسيج صلف يشغله الإرهاق واستنزاف قدرة هذا الجسم على إنتاج حميمية تصمد مع أجسام أخرى. وهذه المشاهدات هي بالتالي محاولات لاستنطاق الحواس المأسورة بسلوكات استلاب واستحواذ، تمارسها السلطات والأنساق المسيجة للجسم، ويبادلها الجسم تسليمًا مطبقًا عبر روتين تعبدي يخرجه من رغد المؤانسة.
نصوص الكتاب تتبارى تباعًا في محاولة تظهير سياق خاص محذوف لهذا الجسم. مثابرة يبنيها بلال باستدعاء الحواس في الحب، والرغبة، والمتعة، كعدة رسم يلون بها ظلالًا تتهامس في كل صفحة من صفحات فصول الكتاب الستة. غير أن مشاهداته وملاحظاته لا تنفك تحاول تنشيط حيوية الحواس عبر إعادتها للجسم، من خلال إعادة تعريفها وطرحها مجددًا كمكوّن أساسي في سلم خصائص هذا الجسم وبنيته. وفي هذا يعيد بلال ترتيب الحواس على سوية واحدة مع الأعضاء، التي يلتقطها نصه كأنها في حالة تمرد فرانكشتايني ميديائي وعصيان خارج كلية الجسد. فالأعضاء في هذا الجسم التقني تقود طموحًا هذيانيًا للتفرد وطمسًا لحضور كلية الجسم وحواسه. الأعضاء المستقلة تلك تمارس استقلاليتها وتبرز نجوميتها عبر كتم عمل الحواس وتغليف وحدة الجسم الناجز وإبعاده الى خلفية متوارية. وبهذا يبدو نصه محاولة لجعل الحواس لغة للجسم خلافًا لتهافت الأعضاء في جسم زومبوي.
يكتب بلال منطلقًا من الجسم المديني المعولم بوصفه مختبرًا يوميًا للسلطات، أكانت سياسية، تقنية أم اجتماعية، وهي توغل في تشكيله ونحته وإرغامه على أن يكون جسدًا عامًا خالي الخصوصية. ومن الحُفَر التي تتركها "الأحداث الزائلة" والأنساق التي تنفجر في لحم هذا الجسم، ينظر بلال إلى العوالم المتشكلة عليه وفيه، ويتقفى أثر الصناعات التي تراكم نتاجها في جلده وأعضائه، من صناعة التجميل والعطور إلى الأزياء والموضة، فأنماط الطعام والريجيم والسياحة البيئية.
يدوّن بلال في كتابه ملاحظات عن الأنساق التي تتغوّل لتصبح هويات صلبة تبتلع الجسم ويومياته في نسيج صلف يشغله الإرهاق
هذه الصناعات تتخذ من الجسم معرضًا لها، وبالتالي تفتته وتقلص فضاءاته إلى عزلات محكمة تتشكل في الأماكن العامة والخاصة وعبر شبكات التواصل الاجتماعية على حد سواء. فهذا الجسم هو جسم يصوم عن المتع طلبًا للنضارة، ويصوم عن الأكل طلبًا للياقة، ويقنن من المحادثات ويكثر من عمليات التجميل وإخفاء الروائح الطبيعية ليصنع الإغراء. وهو على هذا جسم تمثيلي أدائي ميديائي ممسرح، ولكنه جسم جائع، متأهب ومتعفف عن الملذات، طارد للرغبة، يعمل طبقًا لجدول محدد ومن خلال نظام تقنين عال.
ربما لهذا السبب يصح إطلاق وصف "كتابات في الزمن" على كتابة بلال. الزمن بما هو لغة تنمو وتعتمل وتتمدد من الكتب السابقة إلى هذا الإصدار الأخير، الذي يبدو كأنه باب خلفي لهذا الزمن. باب يفتح على إعادة قراءة الكتب السابقة بوصفها ممرات في حديقته، وهي ممرات صُنعت في أزمنة وأمكنة مختلفة. إنه باب "أناكروني" إلى النظرة التي يصنعها بلال تباعًا عن هذا الجسم المُمثل، المتعب والمتأهب، الطائع.
الجسم الذي تعرّفه كتابة بلال هو جسم لحظي، أي أنه جسم يلمع كلما خرج للضوء ثم يختفي في العزلات وفي الذاكرة المطمورة فوق عشب الأداء وصناعة النجوم الفنية. جسم احتفالي، ولكن احتفاليته مقننة تمنع اتصاله مع أجساد أخرى. فغواية المرأة للرجل لا تصنع أثناء وجودها مع الرجل في وقت وحيد واحد. بل تُصنع للرجال عامة، تُصنع لهم بعمومهم وليس لفردانية كل واحد منهم. غير أن عمومية هذه الغواية تتأزم مع استحالة انتقالها إلى خصوصية الحب. وبالتالي فإن هذه العمومية تأسر الجسم في وقت مخصص، تحدده السلطات وتجبره على أن يعمل مبرمجًا بين لحظتين ضائعتين غير ملائمتين للتواصل واستكمال الغواية به. لحظتان تحاول نصوص بلال تظهيرهما كفخ يقع الجسم فيه في سعيه للظهور الغاوي، لحظتا ليس الآن" و"لم يعد ممكنًا". لحظتا استحالة.
وبهذا يفتح الكتاب بابًا مختلفًا لتدوين اللحظة. فلغته تعمل بخفة في سرد المفارقات لجر الوعي خارج حلبة البلادة، وذلك عبر إطالة وقت التقاط عملية أسر الجسم في شبكة الظهور الممسرح، وبالتالي تفكيك سياقات هذا البناء الرتيب المستَسلم له، الذي يولّد بديهية الركون الاستهلاكية. نصه بهذا المعنى يلحظ الصور ليطيل فترة التقاطها، ويخرجها من سكة التعطيل الميديائي، أي يمنعها من الانزلاق إلى "الأحداث الزائلة".
وبذلك تصبح اللحظة لحظة رؤيا في حضور مغاير للسائد وبأبعاد مختلفة. وفي هذا يفتح بلال مدخلًا إلى التباين بين لحظتي الاستحالة هاتين، وهو مدخل إلى خلاص الجسم وخطيئته العاديتين، عبر إخراجه من وهم أعضائه ومن عسف وبرامج السلطات في صناعات النجوم الميديائية.
يعيد بلال ترتيب الحواس على سوية واحدة مع الأعضاء، التي يلتقطها نصه كأنها في حالة تمرد فرانكشتايني ميديائي وعصيان خارج كلية الجسد
غير أن هذا الكتاب يحمل دعوة تَمَثُل بالنساء بوصفهن الكائنات الاجتماعية التاريخية الأكثر تأقلمًا مع المتغيرات، والأكثر قدرة على تطوير تقنيات بقاء وعطف وحب وتحمل تفوق سلطة الذكورة وعنفها. فأجسامنا التقنية هي أجسام متعبة ومنهكة، غير أنها أجسام ما زالت تتأمل في المتع وتتطلب الحب. وبهذا فإن جسم المراة هو جسم مُختَبِر ومجابه وراسم لأشكال الغواية والحب والرغبة. ونظرة بلال هذه الى أجسام النساء بوصفها أجسام الخلاص هي دعوة في الحب والأمل.
هذا الكتاب هو صناعة دعوية بما فيه أنه محاولة مغادرة وانضمام. وهو نمط في الفن صنعه بلال وانجبل فيه على مدى عقدين ونيف، وهو لغة عنف رقيق ينظمه ويمارسه على الكلام المنتهي الصلاحية والمكرر في الشأن العام، محاولًا "طعوجة" البديهي وتغيير مسارات النظر والتفكير. فنسيج النص وإيقاعه وصداه تصنع حبيبات كبيرة من اللغة، تفوق البديهي الذي يحاول النص غربلته، غير أنه يفعل هذا دون أن يغير التوازن كثيرًا بين الدلالة والمدلول، مما يبقيه في سياقات العادي. فمشروع بلال هو لغة محادثات، لغة تواصل وصداقة. بلال يكتب حديثًا وتفاعلًا مع محيطه وحبًا وأملًا.