في عالمنا الخيالي الذي نعيش فيه هربًا من مصيبة أو ركضًا وراء راحة البال، يعتاد بعض الكتّاب ممن لهم تجربة في القراءة والكتابة على وضع قائمة بالغة الأثر على حياتهم وسلوكهم وعلى نشاطهم الإبداعي أيضًا، ولعل أشهر هذه القوائم هي تلك التي وضعها الروائي الأمريكي هنري ميلر في كتابه الشهير "الكتب في حياتي"، الذي حاول فيه استذكار الكتب الفريدة جدًا التي وجد أنها لا تتعدى الخمسين كتابًا من بين ما قرأ بالطبع، لكنه في النهاية وضع قائمة من مئة كتابٍ لعلها الأهم عنده.
كان كتاب المهاجر المرجع الفعلي لدى جماعة "التوحيد والجهاد" في ممارسة الجرائم الدموية في العراق، وتبرير ذبح الرهائن وقطع الرؤوس والتنكيل بالجثث
وكما أن هناك قائمة للكتب الجديرة بالقراءة، ثمة أيضًا قائمة للكتب التي لا ينصح بقراءتها، وليس القصد هنا بعض الروايات الساذجة، أو دواوين الشعر السطحية، أو كتيّبات الأبراج والتنمية البشرية المفرّغة، وكتب تفسير الأحلام وما لفَّ ذلك. كل هذا يمكن أن يقع تحت بند التسلية البشرية التي لا تؤثر على استقرار الناس وحيواتهم. وإنما القصد هنا تلك الكتب الفظيعة التي كان ينبغي ألا تُطبع ويروج لها. ويمكن أن نبدأ هذه السرديّة مع كتاب برز مؤلفه كمرجعية فقهية للجماعات التكفيرية المسلحة.. كتاب بمثابة فقه لسفك الدماء.
مؤلف الكتاب هو أبو عبد الله المهاجر، الذي تقول سيرته إنه رجل دين ومتشرع مؤسس، مصري الجنسية، ترعرع في أحضان معسكرات القتال في أفغانستان إبّان الغزو الروسي. غير أن المصادفة السيئة وحدها جعلت اسمه عبد الرحمن، إلا أنه حين قاد معسكر المصريين ميدانيًا، سمّى نفسه "أبو الأفغان المصريين".
هكذا صار المهاجر الأب الروحي لـ "إسلام" الذبح والقتل غاضًا النظر، وبفورة الحماس الثوري، عن أي وجهة يمكن أن يكوّن منها رؤية للتسامح والمؤاخاة مع أبناء الأديان الأخرى، فضلًا عن التسامح مع أبناء المذاهب المختلفة من الإسلام نفسه. وعندما أعلن أبو مصعب الزرقاوي تأسيس جماعة "التوحيد والجهاد" نهاية عام 2003، كان يحمل معه كتاب أبو عبد الله المهاجر الذي وقّعه بـ "مسائل من فقه الجهاد"، ثم قام بطبعه وتوزيعه على أعضاء الجماعة ليكون المرجع الفعلي في ممارسة الجرائم الدموية في العراق، وتبرير ذبح الرهائن وقطع الرؤوس والتنكيل بالجثث وحرق الأسرى، مستشهدًا بنصوصه في مختلف تسجيلاته التي تناولت الأسس الفكرية والتنظيمية لجماعته الإرهابية.
تلقى المهاجر تعليمه الديني في باكستان، حيث درس أصول الفقه والشريعة بعد الانسحاب الروسي، وتخرّج من الجامعة الإسلامية بإسلام آباد، ثم عاد إلى أفغانستان هاربًا بعد تفجير السفارة المصرية في إسلام آباد عام 1995، وأسس مركزًا لنشر أفكاره الإرهابية. وصل ذلك إلى حدّ أنه أصبح فيما بعد المسؤول الشرعي لمعسكرات المجاهدين بأفغانستان، فتتلمذ على يديه العديد من الجهاديين المتطرفين أبرزهم أبو مصعب الزرقاوي. وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان، هرب نحو إيران ليتم اعتقاله عام 2002، ثم تسليمه للسلطات المصرية بعدها بشهور.
ظل المهاجر في السجون المصرية حتى أحداث كانون الثاني/ يناير 2011 التي أدت إلى سقوط نظام حسني مبارك. وعقب الإفراج عنه، قرر أن يكمل مسيرته فاتجه إلى معسكرات القتال السورية عام 2012، وانضم إلى الهيئة الشرعية لـ "جبهة النصرة" المحسوبة حينها على تنظيم القاعدة، حتى كانون الأول/ ديسمبر 2016، وذلك قبل أن تستهدفه الطائرات الأمريكية في محافظة إدلب السورية، فيلقى مصيره موهومًا بالجنة السعيدة التي سلك الطريق نحوها بالدم والتنكيل وقطع الرقاب.
وبالعودة إلى كتابه "مسائل من فقه الجهاد" الذي يضم عشرين مسألة فقهية، وينطلق من قناعة راسخة بأن الإسلام هو خاتم الأديان، وأن التبليغ به بشتى الوسائل لا يخص أمة دون أمة أو عرقًا دون آخر، وبذلك فهو يقسم العالم إلى معسكرين: الأول معسكر الذين يؤمنون بتلك الرسالة الأخيرة، ونقيضه معسكر من يؤمنون برسالات أخرى.
يستند المهاجر في كتابه إلى الآيات والأحاديث الواردة عن النبي والصحابة والعلماء، ويتخذ من البخاري مصدرًا رئيسيًا، وهو في ذلك يخلص إلى رؤية واضحة بأن الإيمان هو الأمان الوحيد لمن يخالفونه الرأي.
في المسألة الثالثة مثلًا، يرى بأن خطاب الآخر يتم وفق خطوات ثلاث: دعوتهم أولًا، ومن ثم دفع الجزية إن لم يستجيبوا، وبعدها قتالهم إن لم يدفعوا الجزية، وهذه هي الخطوة الأخيرة. هذه الخطوة هي ما يمضي الكتاب في تفصيله، فتجد في المسألة الرابعة جواز اغتيال الكافر والتربص له في كمين، بل جواز قتله وهو نائم. إضافةً إلى جواز التجسس على المشركين بما تمثله تلك من سمة سياسية ميكافيلية.
أما في ما يتعلق بالعمليات الانتحارية، فهو يرى أنها حديثة من حيث صورتها فحسب، أما من حيث جوهرها فهي قديمة لمن يطلع على تراث الإسلام، ويفسرها بانغماس الواحد من المسلمين في العدد الكثير من العدو وإن تيقن من الهلاك. ويصف هؤلاء الانتحاريين بأنهم مَن اشتروا الأخرة بالدنيا.
يرى المهاجر أن العمليات الانتحارية حديثة من حيث صورتها فحسب، أما من حيث جوهرها فهي قديمة لمن يطلع على تراث الإسلام
ينتهي الكتاب إلى مشروعية القتل وقطع الرؤوس وحملها من بلد إلى بلد، وتخيير الأسرة بين الجزية والرق والقتل، وكذلك تحريم الفرار أمام العدو، وهو مشهد يبدو كما لو أنه مصداق لمقولة معمر القذافي "ننتصر أو نموت"، إذ تختفي الحياة بجمالها وجلالها خلف دخان الحرب الموهومة والأبدية بين المعسكرين.
بعد كل تلك الرحلة من الدم، ينهي المهاجر كتابه بقصيدة لـ الأبيوردي، وهو شاعر فارسي ذو أصول عربية أموية مات مسمومًا في أصفهان دون معرفة السبب.
يقول الأبيوردي:
"مزجنا دِمانا بالدُّموعِ السَّواجِمِ
فلمْ يَبْقَ مِنَّا عرضَةً للمَرَاجِمِ.
أرى أمَّتي لا يَشرَعون إلى العِدا
رماحَهُم والدِّينُ وَاهي الدَّعائِمِ".
يختم المهاجر كتابه بتوقيع "عبد الرحمن أبو علي"، ثم يضع بين قوسين عبارة تبدو، وعلى نحوٍ سوداوي، ساخرة: "عفى الله عنه".