لأسبوع تقريبًا يخوض إعلام أبوظبي وجدران صداه في الإعلام السعودي سيل تزييف إعلامي يستهدف قطر. الهجوم الذي بدأ باختراق وكالة أنباء وزرع تصريحات مفبركة لأمير قطر، وحسابات إنترنت وهجوم إلكتروني، تلاه حجب مواقع ومحطات، ثم ترديد طويل وتكرار دؤوب وتدوير مواد إعلامية قديمة، رأى القائمون عليها أنها تدعم حربهم المعلنة تلك. ما يسعي هذا المقال لتوضيحه هو أن ما فعلته حكومة أبوظبي من خلال حملات التزييف الإعلامي غير المسبوق هو جديد شكلًا ولكن منطقه سائد لدى النظم العربية الطاغية، الماضية من تنازل إلى تنازل حتى علاقات كاملة تغدو فيها إسرائيل الصديقة والفلسطينيون أعداء إرهابيين.
ما فعلته حكومة أبو ظبي من خلال حملات التزييف الإعلامي غير المسبوق هو جديد شكلًا ولكن منطقه سائد لدى النظم العربية الطاغية
عند أي حديث عن اتهام جهة عربية لأخرى بالعلاقة مع إسرائيل يحتاج الأمر تدقيقًا طفيفًا، ورصدًا لما حصل في الأسبوعين الماضيين على سبيل المثال. تستقبل السعودية ترامب ومنها يطير إلى تل أبيب، هكذا ولأول مرة، يتهم حماس والمقاومة بالإرهاب ويتحدث عن التطبيع العربي الإسرائيلي، كل هذا يبصم عليه القادة العرب وعلى رأسهم حكام إمارة أبوظبي، الذين يناصبون حماس وحتى منظمة التحرير العداء، ويتبنون محمد دحلان، والذين افتتحوا مكتبًا إسرائيليًا للتبادل التجاري قبل سنوات على أرضهم. ولديهم رحلات مباشرة من مطاراتهم إلى مطار بن غوريون مباشرة في إسرائيل، وغيرها من وجوه التعاون والتنسيق الأمني والتجاري والسياسي.
كل هذا التنسيق والتعاون مع إسرائيل -الذي بات التنبيه له وتعداد وجوهه مملًا- يتزامن مع الحملة المفبركة على قطر، من تصريح مزيف يقول فيه أميرها إن التعاون مع إيران وإسرائيل جيد والعلاقات طيبة. طبعًا هذا غير صحيح في هذه المرحلة. وبلا شك هنالك خشية من كثير من الناشطين والكتاب في توضيح تحولات العلاقة بين قطر وإيران وإسرائيل، وهذا مبعثه أن الملف يستدعي اتهامات مجانية ولغطًا كبيرًا، والأهم خوفًا من عدم الدراية أو تبدل الأحوال، والأهم برأيي استدعاء هجوم ممن يستخدمون تهمة العلاقة مع إسرائيل لتمرير علاقاتهم معها أو تبرير استبدادهم، من يمكن تسميتهم: المستثمرون في العداء الإعلامي مع إسرائيل للتطبيع معها أو التطبيع مع وجودها ومشاريعها.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يساهم "مناهضو التطبيع" في تفتيت الإجماع ضده؟
ليست قطر إمارة مقاومة خلافًا لما كان مؤيدو حزب الله يسمونها، ولكنها على الأقل تستضيف قيادات حماس التي لا تجرؤ أي دولة عربية على استضافتها، وتتحمل ضغوطًا بسبب ذلك. واليوم لا تمثيل إسرائيليًا في قطر، ولمن يتعاملون مع مكتب التنسيق التجاري وكأنه لا يزال موجودًا، فهو أغلق قبل أكثر من 8 سنوات، وعلى خلفية قمة غزة في الدوحة إبان العدوان الإسرائيلي على غزة. رافق ذلك هجوم من دول عربية ضد دعمها للمقاومة في لبنان وغزة آنذاك. يبقى التطبيع الرياضي وغيره، وهذا ملف بالغ الأهمية، والأصوات القطرية فيه واضحة وتطالب بإلغائه بأي شكل، والموقف منه واضح تمامًا، بالرفض والاستنكار. ومهم هنا القول إن نشاط الشباب القطري ضد هذا التطبيع هو الجهد الحقيقي ضده.
ليست قطر إمارة مقاومة خلافًا لما كان مؤيدو حزب الله يسمونها، ولكنها على الأقل تستضيف قيادات حماس التي لا تجرؤ أي دولة عربية على استضافتها، وتتحمل ضغوطا بسبب ذلك
والحقيقة أن موقف قطر اليوم ومنذ اندلاع الثورات العربية من إسرائيل متقدم عن مجمل الدول العربية. هنالك سقف المبادرة العربية سياسيًا والتي رضيت بها القيادة الفلسطينية وحتى حماس رأتها مظلمة ممكنة، وهنا تلتزم قطر الموقف العربي، ولكنها تزيد عليه في مساحة هي الأهم، دعم غزة، والنشاط المتواصل ضد الحصار، وتوفير إقامة لقيادات حماس. ولا يخفى، إلا على متغافل، أن هذا الملف هو سبب التصعيد الإماراتي المستمر ضد قطر إلى جانب دعمها لتيارات سياسية تقدمت شعبيًا بعد الثورات العربية. دعم غزة والمقاومة، يزعج إسرائيل وحكام أبوظبي وأدواتهم في الإعلام السعودي. هذا ما تقوله وسائل الإعلام التي تقود الحملة دون أية مواربة.
المشهد اليوم واضح، ارتهان لأمريكا والاستبداد المدعوم منها والمحمي بها وتنفيذ كل ما تريد، وعلى رأس ما تريده التطبيع الكامل مع إسرائيل، حتى الاستقبال الإمبراطوري في السعودية لرئيسها المشكوك في أهليته في بلاده، ليقول إن الفلسطيني المقاوم إرهابي، وإسرائيل صديقتكم. وفي الوقت ذاته اتهام مستمر لقطر بالعلاقة مع إسرائيل، رغم انتفائها وعدم صحة ما يقال بشأنها.
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. التطبيع مع إسرائيل في "برلمان الغبرة"
أما بالنسبة لإيران فقطر تختلف بقوة مع سياسات إيران الإقليمية وتدفع ثمن ذلك، ولكنها تقف موقفًا واقعيًا برفض التوتير مع إيران في الخليج، والإصرار على حل القضايا الخلافية في الخليج بالطرق السلمية رافضة الاصطياد في الماء العكر. أما الإمارات فتحتفظ بعلاقات تبادل اقتصادي متطورة جدا مع إيران، ولا يمكن تخيل اقتصاد دبي من دون إيران. وفي الوقت ذاته تصعد لفظيًا وتحاول توريط السعودية في صراع مباشر مع إيران.
الحال هذه هي الوصفة المعتمدة والنموذجية لدى النظم العربية، نكرّس طرفًا للسخط الشعبي والإعلامي في شأن العلاقة مع إسرائيل، لتمرير كل أشكال العلاقة معها وتصفية الخصوم لصالح إسرائيل وخوض معاركها. أخطر ما في هذا هو استغلال كل حرارة الوجدان العربي الشعبي ضد العلاقة مع إسرائيل لتمرير التعاون والتنسيق معها، في مشهد خياني تام، لا يندرج بأي شكل تحت إطار اللعب السياسي، بل هو خيانة صرفة.
تختلف قطر بقوة مع سياسات إيران الإقليمية وتدفع ثمن ذلك، ولكنها تقف موقفًا واقعيًا برفض التوتير مع إيران في الخليج، والإصرار على حل القضايا الخلافية في الخليج بالطرق السلمية
فلسطينيًا من كان يوقّع مع إسرائيل على التنازلات، كان مشغولًا شعبيًا في اتهام فلسطينيين آخرين بأنهم صنيعة إسرائيل، مصريًا حين ينسق عبد الفتاح السيسي مع إسرائيل كل ضربة في سيناء ويرتهن لها في كل كبيرة وصغيرة لشراء بقائه في الحكم، يطلق جوقات إعلامه ضد خصومه بالقول إنهم عملاء لإسرائيل، ويقيل نائبا من مجلس النواب لأنه التقى السفير الإسرائيلي، أما ماذا ينسق السفير الذي طردته الثورة مع نظام السيسي ومخابراته، فهذا يجب ألا ينشغل به الناس. وما تفعله الإمارات اليوم هو الموقف عينه، تفتح أرضها لإسرائيل ومخابراتها وخبرائها التقنيين في كل مجالات تقنية المعلومات وتتبادل تجاريًا وتنظم حركة طيران ثابتة وتنسق مع إسرائيل في كل شأن، ثم تأتي بعد ذلك وسائل إعلامها، التي سقطت لحدود غير متخيلة، لتحاول صناعة رأي عام ضد قطر على فرية علاقتها المميزة مع إسرائيل. بكل الفجاجة والاعتباط.
سريعًا يمكن سحب كل هذا على العلاقة مع إيران، فهي تحتل أرضًا إماراتية، وتنسق معها الإمارات في أكثر من ميدان يدعى أنها ميادين حرب وصراع، ثم تتبادل معها تجاريًا بمستويات لم تحصل مع أي دولة عربية، وتدعم مليشياتها حينًا وتوفر ملاذًا لأعوانها، وحسابات مصرفية لأركان نظام الأسد الفاسدين وإقامات لعائلاتهم، ثم بعد كل ذلك تستخدم العلاقة مع إيران كموضوع لاتهام قطر. والحقيقة المتكررة أن هذه الضجة الإعلامية هي لتمرير الصفقات الأكبر وتكريس العلاقات الأوسع القائمة.
اقرأ/ي أيضًا: هل تدخل العلاقات السعودية الإسرائيلية عهدا جديدا؟
إنني ممن يمتلكون الجرأة للقول إن هنالك إجماعًا لدى كل الكيانات السياسية في المنطقة كلها على أهمية العلاقة مع أمريكا، بكل الدم العربي الذي يسيل بسببها، هؤلاء ممتدون من أكثر المحاور تشددًا وحتى أكثرهم تطبيعًا مع أمريكا وتلبية لسياساتها. كل الأطراف تطلب ود أمريكا، أو على الأقل راضية بتقديم كل ما يضمن ألا تعاديها أمريكا. إيران ومليشياتها تقاتل بغطاء أمريكي في العراق، فصائل المقاومة لا تمل من إرسال رسائل أن تفاهموا معنا. هذه سياسة خالصة، وهذا ما يعيه الجميع، ولكن حين ترفض أمريكا نفسها، يتحول الأداء العربي والإيراني أيضا إلى عرض إعلامي صاخب، عن رأس الأفعى وبؤرة الشر وأحلام الأمة المهدورة بطائرات أمريكا وحاملات طائراتها. هذه الحالة صفة ملازمة للخطاب العربي المصدر للشعوب العربية حيال أمريكا، فهي العدوة التي تجابهها قيادتنا الحكيمة بكل قوة وتفوّت فرصها للسيطرة على خيراتنا وموقفنا القومي، وهي بلا شك تدعم كل المعارضين السياسيين للنظم العربية، ولكنهم وبغطاء من هذا الخطاب يواظبون على أبواب سفاراتها ودرجات بيتها الأبيض.
في حين ينسق السيسي مع إسرائيل كل ضربة في سيناء ويرتهن لها في كل كبيرة وصغيرة لشراء بقائه في الحكم، يطلق جوقات إعلامه ضد خصومه بالقول إنهم عملاء لإسرائيل
يصدّر الإعلام الشعبوي القميء تحليلات لوقفة رئيس الدولة العربية ولطريقته في المصافحة وطول السجادة الحمراء التي فرشتها أمريكا له، ثم الأكاذيب الطويلة عما دار في الاجتماع المغلق، وكيف انفعل الرئيس العربي ورفض وأمسك مقبض الباب ليخرج. ثم بعد حين نعلم، من الصفقات والتنازلات والولاءات التي يقدمها النظام العربي لأمريكا، ما حصل فعلًا، ولكن كل هذا لا يأتي ذكره في أي وسيلة إعلام، فهكذا تعمل الخطة المحكمة. ولعل من خيرات الربيع العربي أنه جعل كل هذا أوضح، وفي سياق الحديث عن ألاعيب حكام أبوظبي، فحداثة الشكل والأسلوب - المستوردة بالطبع فيا ليت لدى دولة عربية قدرات انترنتية بهذا المستوى- لا تغطي المنطق البالي والخياني لتمرير التطبيع التام مع إسرائيل بل العمل كوكيل لها في المنطقة.
وفي سياق الحديث عن أمريكا، يقتنع الإعلام التابع لإمارة أبوظبي أنه قادر على إقناع الناس بأن كل جهوده في تحريض الإدارة الأمريكية ونخبها ضد قطر، ستختفي من ذهن الناس وهم يرون تبرير مهاجمي قطر بعلاقاتها مع إسرائيل. يمتلك هذا الإعلام توهّم قوة يجعله يتخيل أنه قادر على تمرير خلطة كهذه. الإمارة التي انطلقت من شواطئها صواريخ الكروز الأولى من الهجوم الأمريكي على بغداد 2003، تستضيف قنواتها ضيوفًا يتحدثون عن قاعدة العديد في قطر، وهؤلاء في غالبهم ماكينات تكرار، فلا يرون القواعد الأمريكية والفرنسية في الإمارات والموجودة من قبل أن توضع طائرة أمريكية في قاعدتهم في قطر. إن كان الموقف من الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية حقيقيًا، فلماذا يهاجم في دولة ويسكت عنه تمامًا في دول أخرى؟ والحديث لا يقتصر على الخليج هنا، فأمريكا بجنودها موجودة في دول عربية أخرى معروفة. الإجابة بسيطة في حالة أبوظبي، فالهدف هو نقل الوجود الأمريكي في قطر إليها كما يسعى اللوبي الإماراتي في واشنطن.
اقرأ/ي أيضًا: اللوبي الإسرائيلي في الإعلام العربي
وعلى جهة أخرى في محور الممانعة مثلًا، فأمريكا العدوة علنًا، ولكن الأهداف مشتركة في العراق وشطر واسع من سوريا. حتى ليكاد المرء يقول بثقة تامة، إن كل معاداة أمريكا في المنطقة هي تكتيك إعلامي مؤقت في سبيل كسب صداقتها، هذا الهدف الإستراتيجي في النهاية، فيا لحظِّ أمريكا وإسرائيل بأعدائهما من هذه الشاكلة. وهذا ربما أعلى مستويات الاستثمار الإعلامي في العداء لأمريكا وإسرائيل عربيًا، كسبيل لتعزيز العلاقة معهما.
وبلا شك توقع التوليفات الإعلامية أصحابها في مواقف طريفة، فصحيفة عكاظ السعودية نشرت مقالًا مضحكًا هو تطبيق تام للفكرة أعلاه، تستشهد الصحيفة السعودية بأحد وجوه التشبيح لصالح النظام السوري دفاعًا عن استبداده وقتله لشعبه، تحت ذريعة العداء لإسرائيل، لمهاجمة المفكر عزمي بشارة، وهو المناضل الفلسطيني الملاحق إسرائيليًا، والمتهم "بمساعدة العدو في زمن الحرب"، والذي لا تتوقف إسرائيل عن التحريض عليه وتلاحق الحزب الذي أسسه بالتضييق والاعتقال والمصادرة. ربما لو قرأ هذا الكاتب المشغول بعزمي بشارة أكثر من أي شيء آخر في حياته، المقال لانفلج، فهم يخربون المسرحية عليه. وطريف كيف تسبغ الصحيفة كل ألفاظ الاحترام على الكاتب الموتور المصاب بمرض عزمي بشارة ليبدو كمصدر مقنع للاستنتاجات العجيبة، والمخالفة لأي واقع أو منطق. قد يكون مفيدًا هنا التذكير بزيارة الجنرال السعودي أنور عشقي لتل أبيب قريبًا ولقاءاته فيها مع سياسيين وأمنيين إسرائيليين والتصريحات العلنية حول مستقبل العلاقات، ومفيد العودة إلى ما كتبته عكاظ ومثيلاتها عن الزيارة.
في سياق الحديث عن ألاعيب حكام أبو ظبي، فحداثة الشكل والأسلوب لا تغطي المنطق البالي والخياني لتمرير التطبيع مع إسرائيل
الصحيفة التي تستخدم الاتهام بالعلاقة مع إسرائيل لتمرير تعاون حكام أبوظبي مع إسرائيل فعلًا، ولضرب حماس وداعميها في قطر، تستشهد بمن لا يرى إسرائيل إلا مبررًا لبقاء نظام الأسد، ومن يعيش بعيدًا بضعة كيلومترات عن المعسكرات الإسرائيلية ويؤلف مقالات عن كشف مخططات الموساد، دون أن تفكر إسرائيل حتى في اعتقاله أو التحقيق معه عن كشف مخططاتها في المنطقة.
هكذا إعلاميًا تريد هذه الجهات الاستثمار بالخطاب الكاذب عن العداء لإسرائيل لتمرير هدفها في القضاء على الجهة العربية الوحيدة التي خاضت مع إسرائيل آخر 3 حروب حقيقية في ظرف عدة سنوات، والجهة التي دعمت من خاضوا آخر 4 حروب مع إسرائيل. والقصد بيّن، حماس وقطر. هكذا تستثمر نظم عربية في قضية إسرائيل التي خاضوا آخر معركة معها قبل أكثر من 40 سنة.
كم تبدو هذه الكوميديا عجيبة حين يرافقها هجوم سايبر يملأ الإنترنت، ربما هو باختصار تطور أدوات وتخلف ذهنيات، والعمل بالوكالة لصالح إسرائيل وأمريكا.
اقرأ/ي أيضًا: