"العالم المكتوب: تأثير القصص في تشكيل البشر والتاريخ والحضارات" (أثر، 2021/ ترجمة نوف الميموني) للباحث الألماني مارتن بوكنر، محاولة للوقوف على تفاصيل وخلفيات العلاقة اللافتة، والمهملة، التي تجمع الكتابة والأدب والطباعة وصناعة الورق، بالأحداث والوقائع التاريخية الفارقة والمؤسِّسة، بشكل أو بآخر، لعالم اليوم بصورته الراهنة.
يقف "العالم المكتوب" على تفاصيل وخلفيات العلاقة التي تجمع الكتابة والأدب والطباعة وصناعة الورق، بالأحداث التاريخية الفارقة والمؤسِّسة لعالم اليوم بصورته الراهنة
يلقي بوكنر الضوء على هذه العلاقة بأسلوب ينفي أن تكون مجرد فرضيات متخيلة أو مختلقة. فالكتاب، في نهاية المطاف، نتاج جهد بحثي يغطي مرحلة زمنية ضخمة، ويمتد على مساحات جغرافية واسعة. ويقدّم، في سياق بحثه عما يربط الكتابة والأدب، وما يرتبط بهما، بما يأتي على ذكره من وقائع تاريخية فارقة، قراءة جديدة لتلك الوقائع وما ترتب عليها من منظور أدبي يأخذ بعين الاعتبار تفاصيل صغيرة، وهامشية، قلما تأتي المؤلفات التاريخية على ذكرها.
لسنا هنا بصدد تقديم مراجعة شاملة للكتاب، ولا يبدو ذلك ممكنًا أصلًا. فما نحن بإزائه عند قراءته هو حشد هائل من الأحداث والوقائع التاريخية، تقابلها سير وقصص سياسية وأدبية وتاريخية واجتماعية ودينية، دارت أحداثها في دول قائمة وإمبراطوريات بائدة على امتداد عصور مختلفة، إضافةً إلى العديد من المؤلفات الأدبية والسياسية والدينية، والكثير من الكتّاب والمفكرين والسياسيين والحرفيين والأنبياء والملوك والكتَبة.
لذلك، ولغيره، لا بد من عرض فصول الكتاب بشكل منفصل يمكّننا من الوقوف على جميع ما يتضمنه من تفاصيل ومعلومات وقصص لا تتسع لها مراجعة واحدة. لكننا، رغم ذلك، نحاول الوقوف هنا على بعض أهم ما جاء فيه.
فتوحات الإسكندر المقدوني و"الإلياذة".. أية علاقة؟
لم تكن العلاقة بين الإسكندر المقدوني و"الإلياذة" مجرد علاقة عابرة بين نص أدبي ملحمي، وقارئ عادي. فالإسكندر لم ير في ملحمة هوميروس مجرد عمل أدبي يُقرأ ثم يوضع جانبًا، وإنما نصًا تأسيسيًا مقدسًا أعاد بناء نطرته إلى العالم، وأملى عليه ما ينبغي فعله تجاهه.
لكن الأهم هنا أن "الإلياذة" هي إحدى الأسباب التي دفعت الإسكندر إلى غزو آسيا، التي دخلها بعد حرب خاضها على الطريقة الهوميرية. فالغاية من حملته سياسية في ظاهرها. أما في الجوهر، فهي محاولة لإعادة إحياء الملحمة، وتجسيد حروبها بطريقة تمكنه من عيش أجوائها لكن ليس بصفته قارئًا هذه المرة، وإنما بطلها "آخيل".
لم يرى الإسكندر المقدوني في "الإلياذة" مجرد عمل أدبي يُقرأ ثم يوضع جانبًا، وإنما نصًا تأسيسيًا مقدسًا أعاد بناء نظرته إلى العالم
أراد الإسكندر من حملته على آسيا إحياء "الإلياذة" التي رافقته طوال الحملة. كما أراد أيضًا إضافة فصل جديد إلى فصول قصتها، على اعتبار أن حربه ليست سوى امتدادًا لحروب طروادة، وأنه لذلك يمثل آخيل ويجسد بطولاته. غير أنه فشل في تحقيق ذلك. صحيح أنه نجح في خوض حربه على الطريقة الهوميرية، لكن نصره فيها لم يكن نصرًا هوميريًا خالصًا لسببين.
الأول، فشله في قتل داريوس، ملك الإمبراطورية الفارسية الأخمينية، الذي يجسد في نظره "هكتور"، أمير طروادة، الذي قتله آخيل. وبفشله في قتله، يكون الإسكندر المقدوني قد فشل في تجسيد دور آخيل. أما السبب الثاني، فهو غياب من يدوّن سيرته وسيرة فتوحاته هذه. ولهذين السببين، رأى الإسكندر في حروبه الآسيوية، على عظمتها، ملحمة ناقصة.
آشوربانيبال و"ملحمة جلجامش".. تسيير شؤون الدولة وإدارة وحروبها عبر الكتابة
العلاقة بين آشوربانيبال و"ملحمة جلجامش" تختلف تمامًا عما هي عليه بين الإسكندر المقدوني و"الإلياذة". فالأخير أراد إحياء ملحمة هوميروس وتجسيد حروبها، بينما سعى الأول إلى نسخ "ملحمة جلجامش" وحفظها، بهدف ضمان وصولها إلى المستقبل وقرائه.
إنه لذلك النص الذي دفعه إلى بناء مكتبة ضخمة، ستكون من بين أهداف فتوحاته إمدادها بألواح مسمارية جديدة. لكنه أيضًا النص الذي أرسى دعائم حكمه، وضمن له توسعة حدود إمبراطوريته. فالملحمة هي من حَمَله على تعلّم مختلف لغات عصره، بما في ذلك البائدة منها. وهي من دفعه أيضًا إلى إتقان مهارات الكتابة وفنونها، التي أتاحت له أن يكون: "أول ملك لا يقع تحت رحمة عرّافيه، لأنه سيمتلك من المهارة ما يجعله كفئًا في مجادلة كتبته في تفسيراتهم التنجيمية".
أقام آشوربانيبال، مدفوعًا بشغفه بالكتابة الذي تمخض أساسًا عن شغفه بملحمة جلجامش، روابط وثيقة بين الكتابة وإدارة شؤون الدولة. وعبر الوصل فيما بينها، أسس نظامًا بيروقراطيًا جعل من السلطة مركزية كما لم تكن من قبل، وأتاح له تسيير شؤون إمبراطوريته وتوجيه جيوشها وإدارة حروبها من قصره، إذ أتاحت له الكتابة والنظم البيروقراطية المتمخضة عنها، أن تصل أوامره إلى وجهتها، وتنفّذ، دون الحاجة إلى مغادرة القصر. وهنا بالضبط يتجلى دور "ملحمة جلجامش" في إرساء دعائم حكم آشوربانيبال من جهة، ودورها في إعلاء شأن الكتابة وقيمتها، بصفتها أداة بناء ومصدر قوة، لدى من خلفه وخلف إمبراطوريته من جهة أخرى.
صناعة الورق والطباعة.. من "بيت الحكمة" إلى ظاهرة "صكوك الغفران"
لم يقتصر بحث مارتن بوكنر على العلاقة بين الأحداث الفارقة في تاريخ الحضارة البشرية من جهة، والكتابة والمؤلفات الأدبية والدينية والسياسية من جهة أخرى. بل طاول أيضًا الحِرف والصناعات المرتبطة بالكتابة، مثل صناعة الورق، وتجليد الكتب، والطباعة، وغيرها. فيروي، على سبيل المثال، قصة انتقال سر صناعة الورق من الصينيين إلى العرب بعد معركة نهر طلاس، التي وقعت سنة 751 ميلادية.
ويبيّن الناقد الألماني، في الوقت نفسه، أثر وتداعيات هذه الصنعة على حياة العرب، لا سيما الثقافية والعلمية. ذلك أن انتشار الورق مهّد لظهور أول مكتبة في العالم الإسلامي، وهي المكتبة التي بناها هارون الرشيد، وتُعرف باسم "بيت الحكمة" الذي وضع العرب في: "سدة الصدارة والريادة العلمية في الوقت الذي شهدت فيه أوروبا عصورًا من الانحطاط بعد سقوط روما. حتى إن الورق الكبير الفاخر عُرف باسم الورق البغدادي لما احتلته بغداد من أهمية في الثقافة الكتابية".
أسس آشوربانيبال من خلال الكتابة، وبفضل "ملحمة جلجامش"، نظامًا بيروقراطيًا مكّنه من تسيير شؤون إمبراطوريته دون الحاجة إلى مغادرة القصر
في السياق نفسه، لكن حول الطباعة هذه المرة، يروي بوكنر أنه بعد سقوط القسطنطينية بيد الأتراك، أعلنت الكنيسة في أوروبا النفير العام لوقف زحف الأتراك نحوها. ولأن تحشيد الجيش وتسليحه كان مكلفًا، دعت من لا يستطيع القتال بنفسه إلى المساهمة بأمواله، على أن ينال في المقابل الصفح عن ذنوبه، ويُمنح صكًا يثبت ذلك، الأمر الذي اشتهر آنذاك باسم "صكوك الغفران".
أما موقع الطباعة في هذا السياق، فيتجلى في استعانة الكنسية بالمخترع الألماني يوهان غوتنبرغ لطباعة "صكوك الغفران". والأخير لم يكن بوسعه طباعة تلك الأعداد الهائلة منها لولا اختراعه، الذي تزامن ظهوره مع دخول الأتراك إلى القسطنطينية، وهو قوالب حروف متحركة سهّلت من عملية الطباعة، وجعلت النصوص المطبوعة أكثر وضوحًا ودقة.