لا يستطيع الشاعر الفكاك من حساسيته المفرطة تجاه الأشياء والموجودات من حوله، أو حتى إزاء ما يتفتح أمام عينيه من مآسٍ وأحزان كبيرة. فالشاعر يُقذف إلى هذا الوجود متأرجحًا بين العظمة التي تميّزه عن سائر البشر، وبين النقص الكبير الذي يمنعه من الاندماج في القطيع. وفي فلك هذه الدوامة، التي تبقيه على قيد الشعر والتأمل، تمضي حياته.
الشاعر الحقيقي يدرك في ظلمة أعماقه أنه جحيم مسافر بين الأزمنة الغريبة، أو ربما كان خطًأ كبيرًا في الزمان الخطأ والمكان الخطأ
إن محنة الاغتراب والانفصال عن الواقع، التي ترافق الشاعر في مسيرته، ليست وليدة صدمات لحظية انفعالية في مرحلة معينة، بل هي أشبه ببكتيريا إلهية نمت وتشعبت في روح الشاعر الطفل، ورغباته النزقة، لتبلغ ذروتها بعد سنين الصبا والمراهقة. والصفعة المؤلمة التي يتلقاها، في بداية حياته، تبقى آثارها واضحة على جسده ولغته. بل وتظهر، بين فترة وأخرى، في رموز وأقنعة. ثم تتحايل في ما بعد، بطرائقها الخادعة والماكرة، لتخفي رعبها الحقيقي.
تنفك العقدة الإبداعية عند الفنان أو المبدع لتتناسل إلى عقد متشابكة غير مرئية، وتعمل الصدمات والفقد المتكرر على تكثيف الأحاسيس بطريقة صافية وعميقة. فعندما تتخلص حاستا السمع والبصر من شوائب العالم الخارجي، يتحرر الشاعر من حمولة كريهة تجثم على صدره، فينفتح له ستار اللامرئي، وتبدأ جميع الأشياء من حوله تنبض بالشعر، ليصبح صانعًا للرؤى ومتحكمًا في دفة المخيلة وهي تبحر بعيدًا وراء عالمنا المادي المحسوس، أو تنهل من الصور والرموز المختبئة في بئر اللاوعي.
لا يستطيع الشاعر اللجوء إلى الأغلبية. ومع ذلك يقدّم مجموعة من الشروط والتنازلات لثقافة القطيع ليشعر بالدفء والأمان المرجوين، كأن يعمل بشكل مستمر، أو يستقر ماديًا وعائليًا، أو يتبنى مذهبًا سياسيًا وأيديولوجيًا يؤمن به طيلة حياته. وهذه أشياء تشعل في داخله جحيم الصراع بين مثاليته وتمرده من جهة، وسذاجة الواقع الذي كان يركله بقدميه من جهة أخرى.
هذا ما دفع الكثير من الشعراء، إضافةً إلى أجواء الكآبة والإخفاقات المتتالية التي تبقى ملازمة للشاعر في يومياته وعلاقاته مع الآخرين، مع شعوره التام بالعجز والقهر في مجتمع جاهل يرزح مستمتعًا تحت سلطة القمع والكبت، إلى الانتحار.
في عصر الآلة والعولمة المؤدلجة، فقد العالم مركزيته وانهارت الرموز التي كانت تحيط الشاعر بهالة مقدسة، وازداد عدد الشعراء بالملايين، واختلطت الأوراق على القارئ، حتى صار الشعر منبوذًا ومهجورًا حتى من الشعراء أنفسهم، الذين أتعبهم هذا الاحتراق الذي تداهمهم فيه الشعرية بروح غامضة وتستولي عليهم، فاتجهوا إلى أجناس أخرى بعدما اقتنعوا أن لا فائدة مرجوة من الكتابة، بلا مخلص عظيم، ولا فائدة من الصراخ الذي يبتلع الهاوية والصدى، فلا أثر يبقى بعدهم سوى رماد تذروه الرياح، ولا شيء حقيقي سوى العدم. أمّا الآخرون، فقد اقتنعوا بالصمت الذي يوجبه فعل الكينونة، وصارت الكتابة بالنسبة لهم بمثابة طقوس للتطهير من الألم ومن ثقل الحياة وأوجاعها.
لا يمكن أن نعتبر الشعر هامشيًا ولا مركزيًا. الشعر يتغلغل في كل شيء ويسري في أوردة العالم في أبسط الاشياء وأدقها أيضًا. الشعر ينتزعنا من عالم الأشكال والظواهر إلى آخر أكثر عمقًا، إلى الجوهر الخفي لحياة لم نعِشها، خاصةً أن الوعي والإحساس بالزمن هو من يجعل الشعر كائنًا لغويًا. فالقصيدة العظيمة تنبثق قبل اللغة والكلمات، وقبل الوجود. إنها تنبثق من ذلك الصوت البعيد والخفي، الصوت المجرد للفكرة.
وعلى حد تعبير غاستون باشلار، فإن الكون وجد بانفجار هذه اللحظة الشعرية الهائلة، وربما سينتهي بها أيضًا. يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: "أليست مشاعر الشاعر، هي ذاتها علامة على الحيرة في تأمل الذات؟ وأليست في الوقت نفسه اعترافًا بإخفاقنا إزاء ما في العالم من امتلاء؟".
إن الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة الكلام، وما هو باقٍ يؤسسه الشعراء. فالشاعر هو ذلك الذي يسمع صوت البدايات، وتخترق أعماقه بروق الآلهة وصواعقها، ليمتد ذلك الوجود خارج الأشياء المحسوسة وخارج الزمن البشري. وعلى حد تعبير هولدرلين: فالإنسان غني بمزاياه، ومع ذلك فإنه شعريًا يقيم على هذه الأرض.
لا يمكن أن نعتبر الشعر هامشيًا ولا مركزيًا، فهو يتغلغل في كل شيء ويسري في أوردة العالم في أبسط الاشياء وأدقها أيضًا
يدرك الشاعر كينونته المتناهية في الزمن، فيستشعر وجوده الأصيل ولا يسقط في التشيؤ والوجود اليومي المبتذل. يمسك باللحظة الراهنة واصبعه يشير إلى المستقبل، والماضي يدور حوله كالكواكب البراقة اللامعة. يجذبه ذلك الصوت الخفي، فيستجيب للنداء وحيدًا في عزلة الكون فزعًا وحرًا من كل شيء.
الشاعر الحقيقي هو ذلك الصامت المختبئ خلف الكواليس، ذلك الذي يردم هاوية العتمة بقطرة ضوء، ثم يكتب قصائده كميراث ونبوءات بعد موته. وفي أسوأ الأحوال، يقدّمها كعربون ثقة بينه وبين الله. الشاعر الحقيقي يدرك في ظلمة أعماقه أنه جحيم مسافر بين الأزمنة الغريبة، أو ربما كان خطًأ كبيرًا في الزمان الخطأ والمكان الخطأ.