يستحيل مرور أي يوم من عمر الممانعة من دون الإعلان عن انتصار في معركة أو في قضية ما. هو مجرد انتصار غير واضح المعالم، لا يدرك الآخرون إذا ما كان تكليلًا للفوز بقضية محددة، فهو لا يأتي من ضمن أي سياق ولا أي خطة معينة. فمن أين تأتي الوثوقية الانتصارية التي تظهر في خطاب الممانعة عند كل منعطف؟ وما هي طبيعة الوثوقية الانتصارية التي تكاد تظهر، وبشكل يومي، في أية مناسبة، بمواجهة معينة، أو بالأحرى من دون أية مواجهة؟
لم تكفّ هذه الأسئلة عن فرض نفسها على الجميع على مدار السنين، فما الذي تعنيه أطراف هذا الحلف بالتحديد حين تعلن أنها حققت انجازًا ما؟ على سبيل المثال، ماذا يعني الإيراني حينما يتحدث عن انتصاره على الأميركي والإسرائيلي، وحين يتحدث عما حققه من تقدّم بشأن مفاوضاته حول ملفه النووي؟ وما الذي يعنيه النظام في سوريا حين يعلن انتصاره على "الإرهاب" المتمثّل بالانتصار على شعبه الذي يثور عليه، فما هو هذا الانتصار الذي يتأسس على قضاء أي رئيس على شعبه أو تهجير الجزء الأكبر منه؟ وما هي تداعيات انتصار حزب الله على المؤامرات اللبنانية الداخلية التي لا يكف عن حياكتها المحور الأميركي (الذي يتفاوض معه في عدة ملفات، وكانت على رأسها مسألة ترسيم الحدود البحرية مع كيان العدو)، أو حين ينتصر الحزب نفسه على الحصار المتخيل المفروض عليه والذي لا يدرك كنهه أحد، أو حين يقارع العدو الغاشم افتراضيًا؟ ما هي تفاصيل انتصار بوتين على أوكرانيا؟ أو انتصار الصين اقتصاديًا على الولايات المتحدة الأميركية... الخ؟
يكاد يصل حلف الممانعة، والتحالف الشرقي المتشكّل من رفضه الحصري للمحور الغربي وعلى رأسه الأميركي، إلى إعلان الانتصار لمجرد الاستيقاظ باكرًا، أو لمجرد التنفس في الحياة اليومية، دون أية قدرة عند الآخرين على تلقّف خطواته وعلى مساءلته حول طبيعة أو حقيقة الأمر. لأن غير الممانعين لا يعرفون معنى ومحددات ومفاعيل الانتصار في عُرف الممانعة، كما وأنهم لا يستطيعون تعيين حدوده والاصطلاح مع الممانعين على موضوعه وملامحه.
يستحيل مرور أي يوم من عمر الممانعة من دون الإعلان عن انتصار في معركة أو في قضية ما. فمن أين تأتي الوثوقية الانتصارية التي تظهر في خطاب الممانعة عند كل منعطف؟ وما هي طبيعة الوثوقية الانتصارية التي تكاد تظهر، وبشكل يومي، من دون أية مواجهة؟
لعل ما أشار المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ إليه يمكنه أن يفسّر أصول هذه الحالة، ويضيء على تفاصيلها بشكل دقيق، وذلك حينما يقول في كتابه "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" إن الظافراوية أو الانتصارية تأتي ردَّ فعل يقبع في جو من الهزيمة، فهي بمثابة "القطب أو النزوع المكمّل للانهزامية أو الاستسلامية المباشرة. بل قل إنها... تصعيد ايهامي للهزيمة، أو انهزامية مقلوبة". فما يغذّي الظافراوية هو ماورائية ثوراوية تستهين بالمشكلات الواقعية وتسخّفها "الأمر الذي يفقدها كل إحساس بنسبة القوى ويرميها، بالتالي، في حضن هزائم جديدة، إلى أن تتحول إلى استسلامية يائسة". فالانتصارية "تحليق فوق الغيم"، إنها منظومة أفكار وسلوكيات مفارقة ومتناقضة مع القراءات الواقعية، ذلك لأنها، انتصارية مستمرة، ليست مجرد تفاؤلية، وليست نابعة من ثقة بما ستؤول الأمور إليه في المستقبل، وليست نابعة من تسليم أعمى بسياق الأمور وببنية الأحداث، بل هي ردّ فعل وتعبير مَرَضي عن انهزام وأزمة يتم مقاربتها بعقلٍ مهزوم يحاول الهرب نحو أزمة أكبر، فيعبّر عن الهزيمة بكل مفردات الانتصار. هي تعبير عن شغف بانتصار ما، بل هي استجداء لأي انتصار ولتحقيق أي إنجاز متخيّل، ولو كان إنجازًا غير مادي وليس له أية مفاعيل واقعية، ولا يفرض أي توازن رعب، ناهيك عن أنه ينمّ عن هزيمة محقَّقة. إن الانتصارية الممانعاتية المدّعاة والمعلنة، ليست عقلانية تقيس الخسائر بالنسبة إلى الإنجازات، ولا هي تعبير عن خطوة ضرورية للبحث وللبت فيما إذا كان الانتصار انتصارًا حقيقيًا وحقًا، وله مفاعيل وترتيبات، بقدر ما هي تفكير رغبوي ولغودلالي يصل إلى أن يكون مقاربة مسقطة وعقيمة على أرض الواقع.
وفي السياق، لا يكون الانتصار انتصارًا قبل إعلان انتهاء المواجهة، إن كان هناك ثمة مواجهة. ولا يكون قبل الإجهاز على مشروع الخصم ومخططات العدو، فلا يتم الإعلان عنه قبل إطلاق الصفارة النهائية. لذلك، يستحيل على الانتصار أن يكون من دون تاريخ وسياق، ولا يكون بدون خطة ومشروع ورسم أولي لكيفية السيادة وبسط السلطة أو الهيمنة على مصادر القوّة، لأنه لا يكون في نقطة منعزلة عمّا قبلها وما بعدها، بل لا بد من قياس الانتصارية إلى ما تحقق من نتائج نهائية في هذه القضية أو تلك. الانتصار هو إنجاز، هو تحقيق شيء ما، أو هو تحويل ما كُتب على الورق إلى حيّز المكان والزمان بوصفه نموذجًا أوليًا ليوطوبيا مسبقة. وهو أيضًا، خطوة إضافية راسخة تقربنا من الوجهة النهائية التي نهدف إلى الوصول إليها. فمن دون هذا كله، يبدو الانتصار كأي مصطلح آخر يمكن ترديده من دون أي مضمون ولا نتائج عينية، من دون دلالة، بل مجرد صف كلام عابر لا تستطيع مقاربته بأي موضوعية أو مقاربة علمية، أو أية قراءة يمكن أن تؤدي إلى توظيفه في شبكة علاقات تنتج عنه شبكات قوى جديدة.
ولأن السياسة مقاربة واقعية، فهي دائمًا إحالة إلى ما يريد أي امرئ أو حزب أو قائد تحقيقه، لأن الغاية السياسية التي يمكن الوصول إليها تقوم على التمييز بين الإنجاز وبين الرغبة، إذ لا يمكن أن تُستبدَل مفاعيل الهزيمة بمفاعيل الانتصار إلا في تحقيق الغاية التي قامت من أجلها، غاية لا يمكن استبدالها بالمرمغة على سطح كل المواقف الشاعرية التي تكتفي بترديد شعارات النصر لمجرد خوض المغامرة من دون أية اعتبار لأي نتائج مادية تتأتى عنها.