أطلّ عقد التسعينات في السينما على عالم متخم بالحروب، ,وترافق ذلك مع احتجاجات اجتماعية عنيفة وثقافات متضادة وانعدام ثقة بالنظام المؤسسي. ومنذ الستينات على الأقل، ارتدّت آثار هذه الحروب والحركات المضادة على الأدب والسينما في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ انتشرت بشكل ملموس الرموز السلبية للحلم الأمريكي. ومع ازدياد شعبية السينما الأمريكية المستقلة وكذلك الثقافات الأدبية والاجتماعية المضادة، صُوِّرت الوعود المرتبطة بالحلم الأمريكي - بإمكانية اقتصادية غير محدودة، وعدالة اجتماعية، وحرية فردية - بشكل متزايد على أنها وعود كاذبة وخادعة.
يحدد آلان باديو، القرن التاسع عشر، بأنه قرن المشاريع، والمثل العليا، وخطط المستقبل، الطوباوية أو "العلمية"، إلا أن القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية، استهدف هذه الصورة لصالح صورة ديستوبية، عبّر عنها الروائي الروسي "يفغيني زامياتين" بروايته "نحن". وكما أثّرت روايته "نحن" في تعزيز نزعة تشاؤمية، شأنها شأن روايتي "1984" لأورويل و"عالم جديد وشجاع" لألدوس هكلسي في الأدب، فقد أثّرت في السينما التجارية وسينما "الأندرغراوند".
أطلّ عقد التسعينيات في السينما على عالم متخم بالحروب، ,وترافق ذلك مع احتجاجات اجتماعية عنيفة وثقافات مضادة وانعدام ثقة بالنظام المؤسسي. ومنذ الستينيات على الأقل، ارتدّت آثار هذه الحروب والحركات المضادة على الأدب والسينما في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى قدر الإحباط والتشاؤم من النظام المؤسسي، ظهرت في هوليوود في السبعينيات شخصيات إجرامية بأدوار البطولة مثل فيلم "The Godfather"؛ إذ أصبح رئيس العصابة أكثر إثارةً وجاذبيةً وثراءً من رئيس الولايات المتحدة. واكتسحت هذه الموجة السينما وحافظت على عنفها في أفلام الجريمة والدراما، وأفلام الخيال العلمي، والأفلام المتحركة.
ومع انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في مطلع التسعينيات، انتشرت أفلام "الهابي اندينج" المبهجة، ومسلسلات الكوميديا، ورغم استمرار ظهور عدد من أعمال لا تخلو من طابع سوداوي، خصوصًا مع ظهور تجارب واعدة لمخرجين جدد، ظهر جيل جديد من الشباب الذين يبحثون عن أعمال أقرب إلى اهتمامات الشباب وشخصيتهم، ومن بينها كانت العديد من المسلسلات الكوميدية الممتازة مثل "Friends" و"Seinfeld" و"That '70s Show" وغيرها. ولأسباب تتجاوز النجاح الكوميدي، فقد حقق مسلسل فريندز نجاحًا لافتًا، إذ استطاع أن يقدّم، إلى جانب الكوميديا، عالمًا بديلًا لا نأخذ فيه أمورنا على محمل الجد، وهو عالمٌ نتمناه ونتوق إليه.
ولكن سرعان ما تدفع التوترات المتأصّلة في الأنظمة السياسية المهيمنة على صناعة السينما، بالديستوبيا إلى الواجهة من جديد ولكن بمخاوف مضاعفة في الألفية الجديدة؛ إذ تتعدد أوجُه الخوف والاستبداد مع تنامي نفوذ التكنولوجيا على البشر.
الخوف من "أزمنة المستقبل"
في ظل تزايد سيطرة التكنولوجيا على حياة البشر، يكشف مسلسل "Black mirror" عن ديستوبيا أكثر قتامة من غزو الكائنات الفضائية أو اجتياح الأوبئة أو وقوع كارثة نووية؛ وهي ديستوبيا الواقع الطبيعي والمستقبل القريب. ولكن "بلاك ميرور" يتناول أيضًا ما يمكن أن يفعله البشر بالتكنولوجيا، وما يمكن أن نفعله لبعضنا البعض، سواء بشكل دموي كما في حلقة "Shut up "and dance التي تنتهي بالقتل أم على مستوى العلاقات الإنسانية كما في حلقات "Nosedive" و "Hated in the Nation" و White" "Bear التي تنتهي بالتجاهل والقسوة والنبذ.
فنجد الإشكال الفردي دومًا يعكس مأزقًا جماعيًا، إذ لا تعد الخيارات الفردية ممكنة لما تخلقه التكنولوجيا من عجز بالتواصل، لذلك تنتهي معظم حلقات المسلسل بأكثر الأشكال سوداوية.
أما مسلسل"Mr. ROBOT" فيعزز من مخاوف تحكم الآلات في حياة البشر، إلا أنّه يذهب في اتجاه سياسيّ، موجهًا نقده إلى الرأسمالية لتحويلها الفرد إلى آله، إذ تُخدِّر التقنية الفرد وتكبّله بالوظيفة والديون والضرائب والاستهلاك والمقتنيات المادية.
ينطلق مسلسل "مستر روبوت" من منظور المسيطر على التقنية، الهاكر العبقري الذي يعاني من مشاكل انفصام في شخصية، والذي يمثل دوره الممثل رامي مالك. يبدو مستر روبوت، وهو يندد باستسلام الشعب للدولة في احتكارها مصادر المعرفة، باعتبار أن كل ما يعرفه الشعب يأتي من الإعلام الرسمي، نسخة مظلمة من فيلم "V for vendetta" الذي أصبح رمزًا ضد الاستبداد السياسي، ولكن عوضًا عن النهاية المتفائلة، يذهب مستر روبوت إلى احتمالات أكثر تشاؤمية.
تتوافق تلك النظرة التشاؤمية للرأسمالية مع مسلسل "Severance"، إذ نجد عالمًا محكومًا بدقة على غرار رواية جورج أورويل، ويتمثل الأخ الأكبر في شركة تشطر حيوات موظفيها في داخل الشركة وخارجها. يوظف صناع المسلسل الكاميرا بشكل أساسي في هذه الديستوبيا، إذ يُصوَّر الموظفون بتقنية التلصص للإيحاء بأنهم تحت الرقابة طوال الوقت، ويوضع الموظف في طرف الصورة أو أنه يصوَّر من بعيد أو من الأعلى لإظهاره على أنه نكرة وبلا أهمية.
ديستوبيا الأثرياء
ترتبط معظم العوالم السوداوية بالأثرياء في كثير من الأعمال الفنية، ففي مسلسل "سكويد غيم" يتطوع العديد من الأفراد في تجارب رهيبة وقاسية من أجل المال، على غرار فيلم "The Hunger Games"، فيما يذكرنا بساحات روما التي اعتادت أن تزج بالمسحوقين في صراع مفتوح مع الوحوش، من أجل تحقيق اللذة لطبقة نفدت منها متع الحياة. وهو ما يؤكده مسلسل Westworld"، إذ تنشئ طبقة نافذة منتزهًا كاملًا وتصنع نسخًا من بشر وحيوانات بهدف مشاهدة سيناريوهات متعددة من أجل إمتاع "الزوار"، وإن كانت هذه الحكاية مجرد إطار لأحداث تستكشف أسئلة فلسفية أعمق ومعضلات أخلاقية.
بعد هجمات "الجمرة الخبيثة" في أمريكا عام 2001، كانت هذه الكارثة مدخلًا لسلسلة من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تناولت انتهاء العالم الحديث بكارثة بيولوجية، مثل فيلم "Children of Men" عام 2006. كما حازت بعض الأعمال القديمة على مشاهدات عالية لما تنبأت به من كوارث حديثة مثل جائحة "كوفيد-19". ولكن حتى هذه الكوارث، قُدم بعضها من منظور أصحاب الثروة مثل فيلم "Never Let Me Go".
ديستوبيا سياسية
يروي مسلسل "The Handmade's Tale" انتهاء العالم الحديث ودماره بعد انقلاب مسلح نفذته مجموعة يمينية "جماعة أبناء يعقوب"، إذ تفرض حالة الطوارئ وتجمد العمل بالدستور، ثم تستلهم قوانين دينية جديدة.
في هذا العالم المظلم، تخضع جميع النساء للعمل المنزلي وتنحصر وظيفتهن بالYنجاب بعد انتشار العقم وتشوه الأجنة. يستخدم صنّاع المسلسل فلترًا أصفر يجعل الصورة باهتة وغير نقية، وهو الفلتر الذي عادة ما يستخدم بمثابة علامة خاصة بدول مثل الهند والمكسيك والدول العربية في هوليوود، وغالبًا ما تصاحب هذا الفلتر مشاهد الغبار والأسواق القذرة والركض المحموم، إذ يوظف الفلتر في المسلسل للفصل بين العالم المتحضر "كندا"، والعالم الديستوبي، فيُصوَّر هذا العالم المتخيل دومًا بالفلتر الأصفر، ثم يعود إلى الألوان الطبيعية والحيوية عند الانتقال إلى العالم المتحضر.
تُجرّد الكوارث الهوليودية الواقع من جوهره في تضاد واضح مع كوارث العالم الثالث، إذ لا يمكن الجزم فيما إذا كانت تلك المشاهد المتخيّلة والمروعة تكشف رعب الأنظمة والحروب، خصوصًا أنها تستخدم فلاتر من شأنها أن تنتزع من المشاهد ردودًا مقررة سلفًا، أم أنّها تعزز من الخيال المهيمن على طبيعة المعروض في الشاشات باعتبار أنه محض خيال. في كتابه "مرحبا في صحراء الواقع"، يقول سلافوي جيجيك إنه في سوق اليوم، نجد سلسلة كاملة من المنتجات المجردة من خصائصها الضارة، إذ نجد بنًا بدون كافيين، وقشدة بدون دهن، وبيرة بدون كحول، وصولًا إلى الجنس الافتراضي باعتباره جنسًا بدون جنس، ثم يتساءل: هل أصبحنا نشاهد حربًا بلا دماء أو ضحايا؟
في تاريخها، تستكشف الديستوبيا مخاطر الاستبداد السياسي، وتنقل مخاوف بشأن المشاكل التي تهيمن على المناقشات الثقافية والسياسية في أمريكا وأوروبا، مثل الهجرة والرقابة الاجتماعية والهوية والقلق الثقافي. وفي المقابل، لا يبدو أن الديستوبيا السياسية تعبر عن "مخاوف" بعض دول العربية بشكل رمزي، وإنما بشكل مباشر، ولعل هذه المفارقة يمكن أن تجيب عن السؤال: "لماذا لا توجد ديستوبيا عربية؟"، والجواب ربما هو أن المختلين يديرون السلطة والمواطنين يعيشيون في واقع ديستوبي، وأن ما يبدو ديستوبيًّا للمشاهد الغربي، هو بالنسبة إلى شخص يعيش في صنعاء تحت حكم جماعة أنصار الله، حيث لا يسمح للنساء بالتعليم المختلط أو السفر من غير محرم أو ارتداء ما يخالف الملابس الرسمية أو التحرك بحرية، هو أقل ديستوبيّة بل وأقرب إلى الواقع.