لقد شهد القرن الأخير اهتمامًا متصاعدًا بالدراسة والتنظير حول الهويات الاجتماعية، و"انفجارًا" في التساؤلات حولها حسب تعبير ستيوارت هول، وبدأ يتبلور بعد الحرب العالمية الثانية موقف نقدي صار رائجًا، يعتمد على كون الهويات سواء الإثنية أو القومية، بناءات اجتماعية تشكلت في سياقات تاريخية، وتحت ظروف محددة، على عكس التصور القديم الذي كان يرى في الهويات تصنيفات جوهرية لا تاريخية، وموجودة منذ الأزل.
يساهم الإحصاء مساهمة فعالة في جعل المجتمع مقروءًا حسب جيمس سكوت، أي أنه يسهل عمليات إدارة وفهم السلطة للمجتمع
ومع أن مفهوم العرق بدأ يتراجع في التوظيف السياسي بعد منتصف القرن العشرين، إلا أن قضايا الهويات الإثنية والقومية ما انفكت تتقدم في صدارة النقاش الأكاديمي في العالم، خاصة مع تصاعد موجات الهجرة وتجنيس الأجانب وتصدر نقاشات الصراع الديموغرافي والعمالة الأجنبية، إلخ. وقد ارتبط تزايد الاهتمام بموضوع الإثنيات وتبلور الاعتقاد بأن هذه الهويات هي صياغات اجتماعية تساهم الدولة بشكل أو بآخر في تعريفها، بتزايد الاهتمام بدور السياسات الإحصائية في هذا كله. وبدأ التنظير لفكرة جديدة كليًا، ستشكل لاحقًا ركيزة لمعظم النقود السياسية والابستمولوجية للديموغرافيا، وهي أن الإحصاء لا يقوم بعكس الواقع، ولكنه يقوم أيضًا، ضمن آليات متراكمة ومعقدة، بالمساهمة في صناعته.
ليست الهويات الفرعية أو الإثنية شأنًا من شؤون الدولة الحديثة، ولا يمكن الادعاء بأنها بدعة من بدع الحداثة، مع ذلك، فإن كثيرًا من نقود الدولة الحديثة، ترى أن الهويات القديمة كانت أكثر سيولة، ولم تكن بحاجة إلى صفات استثنائية أو تمييزية فارقة، إضافة إلى أن كون الهويات الثقافية ضرورية في الحياة العامة للناس، كانت فكرة غريبة تمامًا في الدول ما قبل الحديثة، التي احتاج بعضها إلى إحصاء السكان وتصنيفهم من أجل حاجات عملية على غرار الضرائب والتجنيد، ولكنها لم تكن مبالية بتسجيل هوياتهم.
وعليه فإن مساهة الدولة الحديثة، تجسدت في تخليق نوع من الحدود الثابتة، التي يتم تأكيدها باعتبارها جوهرية وفوق تاريخية، لهذه الهويات، وجرت هذه العملية ضمن مسار طويل من إنشاء التصورات الرسمية عن الأرض والسكان، إضافة إلى تصدير هذه الهويات باعتبارها موضوعًا سياسيًا يمس الشأن العام، ويتم توظيفه من أجل إنتاج رؤية لمحاصصة الدولة، وقد لعب الإحصاء دورًا حاسمًا في كل ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: "أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته
يساهم الإحصاء مساهمة فعالة في جعل المجتمع مقروءًا حسب جيمس سكوت، أي أنه يسهل عمليات إدارة وفهم السلطة للمجتمع. هذا الفهم، مرتبط بالضرورة بفكرة الدولة الحديثة وبالنزعة إلى الإدارة العقلانية للمجتمع، التي تعتمد على خطوات ميكانيكية من أجل تحليل الناس، لكنه أيضًا فهم مرتبط بجعل الناس أكثر سهولة للتعريف، من خلال وضعهم دائمًا في فئات. ويوضح سكوت أن "بناة الدولة الحديثة، لا يقومون بمجرد الوصف أو الملاحظة أو التخطيط، ولكنهم يسعون جاهدين لتصميم الناس والمشاهد بما يناسب تقنيات المراقبة هذه". وبدون الاضطرار إلى التشكيك المبالغ فيه في فاعلية الأفراد، فإن مجموعة من المساهمات النظرية تتفق على أن التعداد يساهم من خلال نشر التصنيفات الرسمية، في رؤية الناس لأنفسهم كمجموعات متبانية.
إن التحول الذي كان أساسيًا في تطور الدولة الحديثة حسب أندرسون وفوكو، هو الانتقال من اهتمام السلطة بالأرض إلى الاهتمام بالسكان
وكما ترتبط السردية المركزية للدولة الحديثة بتحديد مفهوم الأمة، وتعريف من ينتمي إلى هذه الأمة ومن لا ينتمي لها من خلال الإحصاء، وتشكيل مفهوم السيادة والمواطنة في ضوء ذلك، فإن الاستعمار أيضًا، باعتباره قائمًا على إنكار بنيوي للحقوق السياسية للسكان الأصليين، وعلى تمييز ضروري بينهم وبين المستوطنين، يحتاج إلى صناعة قائمة من الصنافيات، يتم تمثيل هذه التباينات من خلالها.
ثمة سؤال نظري كبير يطرح إجمالًا عن جدوى عد الناس، وثمة أسئلة أكثر تخصيصا حول جدوى إحصاء السكان حسب الهوية الإثنية أو الدينية. وإذا كان هناك إجابة أولية تنموية عن السؤال الأول، غير مقنعة غالبًا، مرتبطة بسعي الدولة إلى استخدام عدد الناس في مشاريع التخطيط وتقدير الحاجات وسبل التنمية، واستشراف المشاكل التي سيواجهها المجتمع في المستقبل، فإن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإحصاء الناس على أساس خلفياتهم الثقافية أصعب، واحتمال أنها ستكون منطقية أقل بالضرورة، فمعرفة عدد طائفة معينة، أو معرفة من هي المجموعة التي تشكل الأغلبية، لن تضيف أي منفعة لدارسي التنمية أو للمعنيين بالتخطيط.
إضافة إلى جعل المجتمع "مقروءًا" حسب وصف سكوت، وبالتالي تسهيل إدارته وضبطه، وتسهيل منح مجموعات امتيازات على حساب مجموعات أخرى، فإن هناك افتراضًا أساسيًا غير ديمقراطي يقوم عليه صانعو الإحصائيات الرسمية، وهو أن الناس يتصرفون سياسيًا باعتبارهم أعضاء في مجموعات إثنية أو قومية، وهذا الافتراض بالإضافة إلى أنه يتعامل مع الأفراد كذوات كمية وغير فاعلة، فإنه يسهل ضبط سلوك الناس، ويسهل صناعة البروباغاندا التي تعتمد على أثر النسب الديموغرافية، والأغلبيات والأقليات. وحتى إذا لم يكن النظام يمثل أغلبية، فإن خطر الأقليات الصاعدة ديموغرافيًا عامل ممتاز للاستثمار من أجل كسب ود الأغلبية.
هناك افتراض غير ديمقراطي يقوم عليه صانعو الإحصائيات الرسمية، وهو أن الناس يتصرفون سياسيًا باعتبارهم أعضاء في مجموعات إثنية
إن هذا الافتراض يعتمد إذًا على أن كل شخص ينتمي إلى مجموعة إثنية سيصوت لممثلها في الانتخابات، وبالتالي فإن الإحصاء قائم على نوع من تخيل الطوائف باعتبارها حصصًا في الدولة، تزيد أو تنقص حسب النسبة الديموغرافية لهذه المجموعات، وهذا عامل مركزي يقف وراء نشوء الطوائف السياسية بالمعنى الحديث، وهو على أية حال منطق غير ديمقراطي، يتصرف فيه الناس سياسيًا على أساس مصلحة المجموعة الإثنية لا مصلحة الأمة.
لقد ارتبط نقد الديمغرافيا إذًا بنقد الدولة الحديثة، ما يظهر واضحًا في اعتبار بندكت أندرسون، في مداخلته عن المجتمعات المتخيلة، للتعداد كبعد من الأبعاد الثلاثة الأساسية في صناعة حدود الهويات القومية الجديدة، إضافة إلى المتحف والخريطة. إن هذا الاعتبار يفترض أن التعداد يساهم ليس فقط في صناعة الهويات الكبرى، ولكن بموازاة ذلك في صناعة تخيلات الأفراد والمجموعات الاجتماعية عن أنفسهم وعن التباينات والخلافات الاجتماعية والسياسية. وهذا ما يتضمن رغبة السلطة من خلال التعداد بصناعة الهويات الفرعية سواء الإثنية، السياسية، الاقتصادية، الخ. إضافة إلى أن الإحصاء وإذ يمثل تقديمًا متساويًا للأفراد والمجموعات، إلا أنه غطاء "علمي موضوعي" لأشكال مختلفة من اللامساواة في نفس الوقت.
اقرأ/ي أيضًا: ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة
إن التحول الجديد، الذي كان أساسيًا في تطور الدولة الحديثة حسب أندرسون، هو الانتقال من اهتمام السلطة بالأرض إلى الاهتمام بالسكان، والتبادل الجدلي بين هذه الاهتمامات، بما يخدم امتياز فئة سكانية. وهو ما يتفق معه ميشيل فوكو، الذي يعتبر بدوره أن موضوع السلطة تغير من دولة الأرض إلى دولة السكان.
إن النقد الأهم للإحصاء يعالج الافتراضات الأيدولوجية الكلية التي تنطلق منها السلطة في التعامل مع السكان
إن النقد الأهم للإحصاء يتجاوز سؤال الموضوعية أو التعقب الابستمولوجي للبيانات الإحصائية، ولكنه يعالج الافتراضات الأيدولوجية الكلية التي تنطلق منها السلطة في التعامل مع السكان. حيث إن فعل البحث الإحصائي قائم أصلًا بالنسبة لميشيل فوكو، على افتراض أيديولوجي كامل بأن الأفراد هم مواضيع بيولوجية تحتاج الدولة إلى دراستها، وتحتاج إلى دراسة صفاتها الخاصة، وتقديمها كصفات سياسية متعلقة بالأمن والأمن السياسي.
ويمكن هنا الإضافة أن هذا الاهتمام يقوم على تحويل الصفات الشخصية مثل الإيمان\الدين إلى هويات سياسية مثل الطائفة التي تنشغل التعدادات في تقديمها ضمن أطر متجددة. إضافة إلى صفات شخصية مثل الإنجاب\الخصوبة التي تم ربطها بالحداثة والتطور (خصوبة أقل، حداثة أكثر). يظهر هذا واضحًا في النظريات الأولى في الديمغرافيا مثل نظرية التحول الديمغرافي مثلًا، التي تفترض أن هناك مخططًا واحدًا لكل المجتمعات الإنسانية، تقل فيه الخصوبة بعد مرحلة من وصول المجتمعات الإنسانية إلى الحداثة.
اقرأ/ي أيضًا:
ما وراء خطوط الشعبوية.. هل هو عصر إذابة الدولة القومية الحديثة؟