انتهت يوم الثلاثاء الفائت وقائع معركةٍ لم يُعرف من الذي خرج منتصرًا منها، إذ أعلنت شركة ميتا رسميًا بدءها عملية إنهاء الوصول إلى المحتوى الإخباري على فيسبوك وإنستغرام لجميع المستخدمين في كندا، وذلك على خلفية تشريعات فرضتها البلاد تطالب عمالقة الإنترنت بدفع تعويضاتٍ مالية لناشري الأخبار الذين يشكّلون جزءًا يسيرًا من بقرة المحتوى والبيانات التي تحلُب أرباحها.
هذا التشريع هو جزءٌ من توجّه عالمي أوسع للحكومات التي تحاول جعل شركات التكنولوجيا تدفع ثمن الأخبار. إذ يشبه التشريع الكندي قانونًا ذاع صيته وشكّل انطلاقة هذا التوجه أقرّته أستراليا عام 2021 وأثار تهديدات من جوجل وفيسبوك لتقليص خدماتهما، لتشهد تلك المعركة نهاية مختلفة لواقعة "كندا-بيغ تيك"، وتبرم كلتا الشركتين صفقاتٍ مع شركات إعلامية أسترالية بعد عرض تعديلات على التشريع.
يتماشى ذلك مع بعض الإجراءات التي اتُخذت في الولايات المتحدة نفسها، إذ نظرت ولاية كاليفورنيا -الحاضنة لوادي السيليكون، ويا للمفارقة- أيضًا في قانون مشابه، حيث لا زالت ميتا تهدد بسحب خدماتها من الدولة إذا لم ترضَ عن التشريعات.
الغاية المعلنة من مشروع القانون العربي للإنترنت هي؛ إنصاف وحماية المحتوى العربي واحترام الثقافة العربية والإسلامية، حماية المستخدمين من المحتوى الضار وغير القانوني وغير اللائق، والتعامل مع الضرائب الرقمية، وتحقيق العائدات المالية
في أوروبا تكون الصورة أكثر وضوحًا وصرامةً تتسق مع البيروقراطية الأوروبية التي يسخر منها العالم الأول، إذ أصبح قانون حماية البيانات العام (GDPR)، الذي تم تمريره عام 2018 ويقيّد على الشركات جمعها بيانات المستخدمين لأغراضٍ غير التي صرّحت عنها عائقًا أمام شركات جمع وتحليل "البيانات الضخمة" التي تمتلك شهيّة مفتوحة لا تُشبَع للبيانات كيف كان شكلها. فتشات جي بي تي، صيحة العصر الحديث، ما زال تحت تهديد الحجب، ويلوّح سام ألتمان بسحبه من أوروبا كل حينٍ وآخر، وثريدز، آخر إبر مارك زوكربيرج لم يدخل الأراضي الأوروبية بعد، من بين مئات التطبيقات والخدمات الأخرى الأقل حجمًا وشهرةً.
ولم تنحصر الجهود الأوروبية ضمن قانون الـ (GDPR)، حيث تدور رحى معركة أخرى بين المفوضية الأوروبية وشركات التقنية الأمريكية الكبرى في الفضاء السحابي، حيث اتخذت المفوضية بالفعل إجراءات قانونية لرفع الفواتير الضريبية لمقدّمي الخدمات السحابية الثلاث الكبار المهيمنين على حوالي 70% من السوق السحابية الأوروبية، خدمات ويب أمازون وسحابة جوجل ومايكروسوفت أزور، واتخاذ إجراءات صارمة بشأن كيفية استخدامهم للبيانات الشخصية للمقيمين في أوروبا.
النقطة التي أثارت التخوف الأكبر لدى المنظمين الأوروبيين هي أن ثلثي بنوك الاتحاد الأوروبي نقلت على الأقل بعض تفاصيل عملائها ومعلومات أخرى إلى الخدمات السحابية تماشيًا مع استراتيجية المفوضية لتحفيز التمويل الرقمي، وبينما يقول بعض الخبراء أن هذا أكثر أمانًا من "مزارع" الخوادم الداخلية، يبقى هناك قلقٌ أكبر مما قد يحدث إذ تبخرّت تلك "السُحب"، وأن تلك المعلومات الحساسة تقع، في نهاية المطاف، في أيدي خارجية لا تخضع للقوانين المحلية.
يتزامن هذا مع دعمٍ سخي وتسهيلات لتمكين مقدمي الخدمات السحابية الأوروبيين، مثل OVH Cloud وSAP وOrange وغيرها، التي تعاني بالفعل من ضعف خدماتها مقارنةً بما يقدّمه حيتان وادي السيليكون الثلاث، بفضل فرق الميزانية وحجم البيانات والصلاحيات المتاحة، لتتوغل أكثر في السوق الأوروبية.
في دولٍ أخرى، لم تكن الإجراءات بهذه "النعومة"، ففي الصين مثلًا، تم تشييد "سور الحماية العظيم" عام 1990 الذي ينقّي كل شاردةٍ وواردةٍ من المعلومات المتدفقة بين الفضاء الإلكتروني العالمي والفضاء الإلكتروني المحلي، حيث يتحكم في الوصول المحلي إلى الويب، مثل تقييد الوصول إلى مواقع أجنبية محددة.
كما دوّنت روسيا وإيران ملاحظاتهما الخاصة بالاستفادة من التجربة الصينية وتقدمتا خطوة أخرى إلى الأمام، إذ أنشأتا شبكات داخلية محلية يمكن قطعها عن الإنترنت العالمي إذا لزم الأمر؛ فشبكة المعلومات الوطنية الإيرانية أصبحت الآن بكامل طاقتها، وتحاول الدولة إجبار مستخدمي الإنترنت على إنشاء مواقع ويب ومنافسين إيرانيين للتطبيقات الغربية على الإنترنت المحلي الإيراني بدلًا من شبكة الويب العالمية. فعلت روسيا الشيء نفسه من خلال "قانون الإنترنت السيادي" الذي وقّعه بوتين عام 2019 وشبكة الإنترنت الخاصة بها "رونيت".
أما المنطقة العربية، على تأخرها المعتاد في مواكبة الركب التقني، سواءً في تسهيل الحياة أو استبدادها، لم تعد بمنأى عمّا يحدث. فمنذ أيام، خرجت إلى النور مبادرةٌ تعكس روح التنسيق وتوحيد الرؤية والتعاون والمصالح العربية المشتركة. واستجابةً لتكليفه من مجلس وزراء الإعلام العرب في دورته الثانية والخمسين التي عقدت في القاهرة أيلول/سبتمبر 2022، عمل ويعمل الأردن، ممثلًا بوزارة الاتصال الحكومي، على نقل رؤيته الجديدة لمفهوم الجريمة الإلكترونية في إعداد استراتيجية لتنظيم محتوى وسائل التواصل الاجتماعي والتعامل مع الفضاء الرقمي على المستوى العربي.
قد تبدو "صناعة المحتوى"، آخر مفرزات العولمة، ناجيةً في ظاهرها من التقسيم المحلي، إذ يقوم نموذجها ببساطة على "قدّم محتوى، واجمع التفاعل من أنحاء العالم، فتنال النقود" أينما كنت
التنسيق جارٍ -لغاية الآن- مع العراق، الإمارات، السعودية، مصر، تونس، المغرب، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، الهيئة العربية للبث الفضائي واتحاد إذاعات الدول العربية.
وبحسب وزير الإعلام والاتصال الحكومي الأردني فيصل الشبول، تأتي هذه الاستراتيجية ضمن سياق قوانين "استرشادية" تعتمد على أفضل الممارسات والقوانين الدولية مثل قانون الخدمات الرقمية الأوروبي الموحّد DSA بهدف تنظيم عمل منصات البث الرقمي.
إلا أن الذرائع اختلفت على تشابه الإجراءات، إذ يرى المسؤولون أنه "حان الوقت الآن لوقفة واضحة وقوية من الجانب العربي لوضع ضوابط وقواعد لاحترام الأديان"، وذلك بعد أن أقدم متطرفون على إحراق نسخ من المصحف الشريف في دول أوروبية، فيما يرى آخر أن العرب تأخروا ست سنوات، لأن آخر اتفاق وقع بين أوروبا وهذه الشركات كان قبل ست سنوات.
أما الغاية المعلنة من مشروع القانون هي تنظيم عمل وسائل التواصل الاجتماعي مراقبة المحتوى على الإنترنت لتحقيق ثلاثة أهداف؛ إنصاف وحماية المحتوى العربي واحترام الثقافة العربية والإسلامية وقضاياها الأساسية والعادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وقضية القدس "التي تعاني من التهميش على وسائل التواصل الاجتماعي"، حماية المستخدمين من المحتوى الضار وغير القانوني وغير اللائق، عبر محاربة المخاطر الأساسية الناجمة عن الإنترنت، بما في ذلك كافة المصطلحات الفضفاضة التي بدأ بنشرها حزبي الولايات المتحدة وسُحبت على كافة أنحاء العالم دون وجود تعريفٍ واضحٍ لها، مثل خطاب الكراهية، والأخبار الكاذبة والمزيفة والمضللة، وحملات التأثير في العمليات الانتخابية الديمقراطية.
أما الهدف الثالث، فهو التعامل مع الضرائب الرقمية، وتحقيق العائدات المالية. ففي السوقين المصري والخليجي (السوقين الأكبر في المنطقة)، هناك ما لا يقل عن ملياري -وقد يصل الرقم إلى ثلاث مليارات- دولار سنويًا تذهب إعلانات من سوق الإعلان العربي إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهي في الأساس حق لوسائل الإعلام، إذا ما سحبنا قوانين الشمال العالمي نحو جنوبه.
لم تتجاوز تلك المبادرة حيّز النقاش، لكنها خطوة أولى للمنطقة ضمن اتجاهٍ عالمي، ومن المقرر أن يجتمع الفريق التفاوضي العربي لتحديد نقاط التفاوض مع عمالقة التقنية، جوجل، ميتا ونيتفليكس، من بين أخرى. ولم تتحدد ملامح المبادرة بعد وإلى أين ستُفضي، إلا أنها لم تخلُ من تأكيدات المسؤولين على أنها لن تكون استراتيجية "قمعية"، كما تمّت طمأنة الشعوب في كافة الاستراتيجيات القمعية الأخرى، لكن هذا ليس مكانٌ لاستباق الأحداث على أية حال.
لا يتسع المقال لذكر كافة تفاصيل "تقسيم الإنترنت" حول العالم، لكن إن كانت الأمثلة السابقة بها الكثير من اللغو السياسي والتنظيمي، يكفي التذكير أنه أصبح هناك "أمازون" يختلف بواجهته وبضائعه عن "أمازن" البلد الآخر، نتفليكس متاحةٌ في بلدان ومحظورة في أخرى، كما تختلف عروضها بين الدول المتاحة فيها، وحتى النقرة على الإعلان الرقمي، تختلف قيمتها إقليميًا بحسب تفضيل "جوجل آدسنس" و"ميتا آدز" لذلك الإقليم.
وقد تبدو "صناعة المحتوى"، آخر مفرزات العولمة، ناجيةً في ظاهرها من ذلك التقسيم المحلي، إذ يقوم نموذجها ببساطة على "قدّم محتوى، واجمع التفاعل من أنحاء العالم، فتنال النقود" أينما كنت، وإن كنت في بداية مسيرتك ولا تحظى بالانتشار الواسع، "ادفع النقود ليصبح محتواك فيروسيًا"، إلا أن الواقع ليس بهذه البساطة. فرغم أن الجميع يعملون في مساحةٍ واحدة على المنصة نفسها، لا تستوِ اللايك الأفغانية مع اللايك الألمانية مثلًا، ولكلّ مشاهدة ثمن مرتبط بمكانها وجنسية صاحبها، ومكان الصفحة. بمعنى أن هذا الاقتصاد الافتراضي المكسّر للحدود شديد المحليّة، ينبني تمامًا، كما الخدمات السحابية ومعالجة البيانات، على الحدود السياسية الرسميّة الموضوعة على الأرض.
كل ما سبق، يضرب بعرض الحائط الآمال التي بُنيت على الإنترنت منذ عقدين بقدرته على تحويل العالم إلى "قرية صغيرة" ونافذةٍ يفتحها المستخدم فيرى الكوكب. فالعالم يتجه نحو تقسيم شبكة الإنترنت تمامًا كشبكات الكهرباء والطرق، بل وحتى الصرف الصحي. القرية الصغيرة لم تتجاوز مخططها التنظيمي، وتحول المشروع إلى مجموعة قرى متفاوتة الخدمات، تخضع كلًا منها لأهواء الإدارة المحلية.