هنا ترجمة لمقال الكاتب ديفيد بوتر، المنشور في موقع aeon، الذي يرى أن الاضطرابات في التاريخ العالمي تنتظم ضمن نمطٍ واضحٍ، فهل بوسعنا أن نستشرف مستقبلنا استنادًا إلى اضطرابات الماضي؟
بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 1917، احتشد جمعٌ من الناس لاستقبال قطارٍ قادمٍ من هلسنكي في محطة فنلندا بمدينة بتروغراد الروسية، وكان فلاديمير إيليتش لينين على متن ذلك القطار. توجّه لينين إلى جمهور المستقبلين بالتحية وخطب فيهم داعيًا إلى الإطاحة بالحكومة الروسية، وبعد ستة أشهر تمّ إسقاط القيصر بالفعل وتغيّر العالم.
وفقًا لنظرية التغيير لدى لينين، ينبغي استغلال الاضطرابات الاجتماعية لفرض التغيير أو التحوّل، الذي يجب أن يكون جذريًا لدرجة تحول دون عودة المجتمع إلى ما كان عليه
كان لينين قد أمضى في المنفى ما يربو على عقدٍ من الزمن، وقد عُرِفَ بأنه منظّرٌ سياسيٌ روسيٌ ينشط على هامش المجتمع السياسي ويعكف على قولبة الفكر الماركسي بما يدعم نظرية التغيير الخاصة به. وضع ماركس عددًا من التصوّرات حول كيفية انتقال المجتمع إلى نظامٍ يسيطر من خلاله العمّال على وسائل الإنتاج، بيد أن لينين اكتفى منها بتصورٍ واحد، ألا وهو الإطاحة العنيفة بالحكم القائم، الأمر الذي ينبغي أن يتم بقيادة فئةٍ من القادة الثوريين المحترفين المتفرّغين. حمل لينين هذه الخطة معه إلى بتروغراد (سانت بطرسبرغ الحالية)، وهناك سيطر حزبه على التنظيم العمالي الذي تشارك السلطة مع الحكومة المؤقتة في أعقاب تنازل القيصر عن الحكم، بيد أن الأمر استغرق ما يزيد على خمس سنوات قبل أن يقبض حزب لينين على زمام السلطة المطلقة في روسيا، وعلى الطريق فقد الملايين أرواحهم.
وفقًا لنظرية التغيير لدى لينين، ينبغي استغلال الاضطرابات الاجتماعية لفرض التغيير أو التحوّل، الذي يجب أن يكون جذريًا لدرجة تحول دون عودة المجتمع إلى ما كان عليه. ولا تحدث هذه الاضطرابات على نحو عشوائي، إذ لا بدّ من تلبية عدد من الشروط لاندلاعها كما ينبغي أن تتوافر ظروفٌ معينة ليتمكّن قادة الاضطرابات من بلوغ أهدافهم.
ولعلّنا نورد فيما يلي السمات الأساسية للاضطرابات التي يتناولها هذا المقال كما سنرى في الأحداث التاريخية التي وقعت لاحقًا: 1) تنطلق القلاقل من قاعدة فقدان الثقة بالمؤسسات المركزية في المجتمع. 2) ترسي مجموعةً من الأفكار كانت سابقًا تشغل هامش العالم الفكري والثقافي وتنقلها إلى مركز النظام السياسي المنقّح. 3) تشارك فيها جماعة قيادية كرّست نفسها لإنجاز التغيير. يبدو هذا النوع من القلاقل جليًا في بعض الأحداث التي دُرج على تسميتها بالثورات، بيد أنها ليست مرادفًا لها.
فالقلاقل والاضطرابات لا تفضي دائمًا إلى تغيير الحكّام، لا بل إنها أحيانًا تغدو ضرورةً لحماية حكمٍ يوشك على الانهيار. بيد أنها تغيّر من طريقة تفكير وتصرّف الجماعة الحاكمة على أقلّ تقدير.
تؤدّي الاضطرابات إلى إحداث تحوّلٍ عميق في فهم الناس لكيفية سير العالم من حولهم، وهي تتباين بهذه الطريقة مع التغييرات المجتمعية الأقل جذريةً استنادًا إلى المنظومة الفكرية القائمة، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى "الثورات" الإنجليزية خلال القرن السابع عشر التي غيّرت ميزان القوى بين الملك والبرلمان دون تغيير منظومة الحكم الأساسية. يلعب التغيير الأيديولوجي دورًا حاسمًا في التغييرات المجتمعية الكبرى كالتغيير الذي سعى إليه لينين، لأن المجتمعات تعزز الأيديولوجيات التي تؤازر طريقتها في تنفيذ الأعمال. وإذا لم تتغير النظرة إلى العالم، لن يطرأ تغييرٌ على طريقة تنفيذ الأعمال أيضًا. إنه لمن السهل التنقيب في الماضي عن الأفكار المنبوذة التي لعبت دورًا مركزيًا ذات يوم، من قبيل نظرية تمتع الملوك "بالحق الإلهي" في الحكم.
ولعلّه من الأهمية الإشارة إلى أن فترات التحدّي الناجمة عن أسبابٍ متماثلة لن تصل دائمًا إلى النهايات ذاتها. وقد نحذو حذو بارينغتون مور جونيور في دارسته الصادرة في العام 1966 حول الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية إذ نسوق الحجة بأن التغيير في النظام السياسي يحدث في مجتمع يشهد انفصالًا خطيرًا بين الأساليب المتعايشة للنشاط الاقتصادي، مثل الزراعة التقليدية والمشروع الرأسمالي- capitalist enterprise. أو لعلنا نذهب إلى أن الشقاق ما بين محرّكي النشاط الاقتصادي من جهة، والقابضين على السلطة السياسية من جهةٍ ثانية هو شرطٌ مسبق للتغيير. ولكن ثمة مجالًا واسعًا من الخيارات التي يمكن للقادة اتخاذها، بما يفضي إلى نتائج متباينة. ولدينا أسباب معقولة لنتناول أول هذه السيناريوهات باعتباره يقدّم وصفًا للولايات المتحدة وروسيا في مطلع القرن العشرين، بيد أنه ليس هناك في الولايات المتحدة ما يوازي استيلاء لينين على السلطة.
لا يتوقّع نموذج الاضطرابات الذي يقترحه كاتب هذه السطور حدوث التغيير الجذري نتيجةً لمشكلات بنيويةٍ محددة كتلك التي يوردها مور أو أن ثمة نتيجةً حتميةً لمجموعةٍ من المشكلات. وإنما يشير الكاتب إلى أنه حين يجري تقويض النظام السياسي نتيجةً لأحداث من قبيل الفشل الاقتصادي أو الهزيمة في الحرب أو الكارثة البيئية، عندئذٍ سيتوجّب على ذلك النظام أن يتغير أو يؤول إلى السقوط. ويتوقف النجاح أو السقوط على الخيارات التي يتخذها القادة والقدرة على منح الناس منظومةً جديدةً من الأفكار بما يساعدهم على رؤية طريقٍ جديدة مقبلة.
غالبًا ما تكون عواقب الاضطرابات غير متوقعة من قبل معاصريها على الإطلاق، ومردّ ذلك إلى استخدام أفكار من خارج الاتجاه السائد لصياغة الحلول للمشكلات المعاصرة
غالبًا ما تكون عواقب الاضطرابات غير متوقعة من قبل معاصريها على الإطلاق، ومردّ ذلك إلى استخدام أفكار من خارج الاتجاه السائد لصياغة الحلول للمشكلات المعاصرة. وبالتالي، إنه لمن المتعذر علينا أن نعرف بدقة المحصّلة النهائية لأي اضطرابات. فما يمكننا أن نتعلّمه من التاريخ هو الظروف التي أفضت إلى الاضطرابات والقلاقل، مما قد يساعدنا على إدراك ما سنواجهه نتيجةً للوضع الذي نعيشه في الحاضر.
إذا ما ألقينا نظرةً على واحدٍ من أبرز الاضطرابات الكبرى، وهو تحوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى المسيحية في القرن الرابع ميلادي، الذي ما زال يؤثر على عالمنا اليوم، فإننا سنجد أنفسنا أمام حالةٍ كان التغيير فيها قد بدأ قبل مدة. فخلال الخمسين عامًا السابقة للانقلاب الذي قاده قسطنطين ووضعه على السكة الصحيحة نحو توحيد الإمبراطورية الرومانية وإخضاعها لسيطرته، عانت الإمبراطورية من الطاعون والتضخم الهائل فضلًا عن سلسلةٍ من الكوارث العسكرية، بيد أن القيادة أظهرت ميلًا نحو محاولة تحسين عمل الأنظمة القديمة ببساطة.
أما قسطنطين فقد وجه رسالةً مختلفةً تمامًا حين عمد نظامه إلى دعم شرعيته من خلال استيراد مفاهيم من حركة هامشية، وهي المسيحية في هذا السياق. ومن خلال القيام بذلك، استعان قسطنطين بعدد صغيرٍ من المستشارين المسيحيين الذين صاغوا علاقةً جديدةً بين الكنسية والمجتمع الروماني والتحق بتلك الجماعة المتماسكة، التي اعتمد عليها في إدارة الإمبراطورية.
يميط هذا النموذج التاريخي اللثام عن السمات الرئيسية للاضطرابات: فقدان الإيمان بالمؤسسات المركزية (نظام الحكم الإمبراطوري)، وإرساء أفكار كانت هامشيةً فيما سبق (الأفكار المسيحية) ووضعها في قلب النظام السياسي، وتوافر جماعة قيادية متماسكة ومكرّسة لإطلاق التغيير. وفي سياق تعزيز دور المسيحية في الإمبراطورية، عمد قسطنطين إلى تغيير أنماط التفكير فتخلّى عن الأفكار القديمة فيما يخص السلطة الإمبراطورية وأحلّ محلها نموذجًا جديدًا مختلفًا للسلطة، مما أظهر لأفراد الشعب أنهم ماضون في اتجاهٍ مختلف.
وبوسعنا أيضًا أن نرصد تلك السمات في الاضطرابات التي تمخّض عنها القرن السابع الميلادي والتي أودت بنظام سياسي شرق أوسطي كان حتى ذلك الوقت قادرًا على الاستمرارية لقرونٍ من الزمن. فبعد أن تداعى النظام القديم، اعتمد الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، تعاليم النبيّ محمّد لتوفير الأيديولوجية اللازمة للحكم الجديد، الذي تمكّن من بسط سيطرته على أراضٍ شاسعةٍ تبدأ من آسيا الوسطى وتنتهي في شمال أفريقيا. سعى النبيّ محمّد، الذي كان قد توفي قبل عقودٍ من الزمن آنذاك، إلى توظيف رؤاه لبناء مجتمع المؤمنين. لم تكن رؤيا النبي توحي بأن النظام القائم لقرونٍ، والذي تتقاسم السيطرة فيه الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية، كان على وشك الانهيار. بيد أن القيادة الحمقاء التي تصدرت المشهد في كلتا الدولتين أسهمت في تقويض شرعيتيهما على مرّ سنوات من الحروب الكارثية، فضلًا عن أن التماسك الكبير الذي تميّزت به جماعة المسلمين آنذاك ساعد على إلحاق هزيمةٍ سريعة بتينك الدولتين الفاشلتين. وحين استشعر عبد الملك خطر انهيار هذه الحركة أدرك الحاجة لإعادة بناء مركز المجتمع الإسلامي، فبادر إلى إدخال قواعد جديدةٍ إلى المجتمع لتمكينه من مواصلة التقدّم.
استعان قسطنطين وعبد الملك بأمرٍ واحد مكّنهما من نشر ما كانت أفكارًا هامشية من قبل، فقد أحكم كل منهما سيطرته على وسائل الاتصال العامة المتاحة، مثل العملات التي حملّاها رسائلهما والإعلانات التي كانت تلقى على مسامع الجمهور في التجمعات والمناسبات العامة. جرى اعتماد طريقةٍ أخرى لإيصال الرسائل أيضًا، وهي تشييد المباني المؤثرة، مثل قبّة الصخرة التي أقامها عبد الملك بن مروان في القدس، فمن خلال هذه الصروح، أمكن أن ينظر الناس إلى النظام الجديد بوصفه مستقرًا.
إبان الاضطراب الكبير اللاحق، أو الإصلاح البروتستانتي في مطلع القرن السادس عشر، لعب الاستخدام الحاذق لوسائل الإعلام دورًا حاسمًا في صياغة التاريخ الأوروبي. كان يوهان غوتنبرغ قد نجح في اختراع المطبعة قبل نحو 70 عامًا من تعليق مارتن لوثر لقضاياه الخمس والتسعين على باب الكاتدرائية، متحديًا مفهوم "المَطْهَر"، أو المكان الذي يجب أن تنتظر فيه الأرواح قبل أن تدخل الجنة، وطاعنًا بمصداقية صكوك الغفران، التي يمكن للمرء شراؤها لاختصار طريقه إلى الجنة.أثبت لوثر براعةً كبيرة في استغلال هذه الوسيلة الجديدة، إذ أدرك أن التواصل الناجح يجب أن يكون مختصرًا وموجّهًا وأن يتمّ بلغة الجمهور المستهدف. كانت الكنسية الكاثوليكية مواظبةً على إصدار إعلاناتها العامة باللغة اللاتينية، ولكن لوثر أبلغ الناس بأنهم يستطيعون تلقّي كلمة الله باللغة الألمانية.
كان لوثر مناظرًا لمّاحًا وصاحب رسالةٍ قوية، بيد أنه لم يكن وحيدًا. إذ إنه ما كان لينجو لولا الدعم الذي تلقّاه من فردريك السكسوني، الذي كان راعيًا له قبل حلول اللحظة الحاسمة في العام 1517، حين أشهر تحديه للعقيدة الكاثوليكية. وبقي فردريك حاميًا له حتى بعد اللحظة الحرجة في العام 1521، حين تحدّى لوثر الإمبراطور الروماني المقدس، شارل الخامس، إذ وقف قبالته ووسط حاشيته، ليعلن رفضه سحب كتاباته.
كان لوثر مناظرًا لمّاحًا وصاحب رسالةٍ قوية، بيد أنه لم يكن وحيدًا. إذ إنه ما كان لينجو لولا الدعم الذي تلقّاه من فردريك السكسوني، الذي كان راعيًا له قبل حلول اللحظة الحاسمة في العام 1517، حين أشهر تحديه للعقيدة الكاثوليكية
افتقر شارل للتهيئة اللازمة، فقد نشأ في هولندا واعتلى سدة الحكم وهو ما يزال مراهقًا، ناهيك من أن معرفته باللغة الألمانية كانت محدودةً. وبالتالي، أثيرت المخاوف حول كفاءته مقارنةً بما تمتع به قادة المجتمع الألماني من حوله، كما كانت ثمة هواجس بشأن استنزاف الكنيسة للمال الألماني من خلال بيع صكوك الغفران في وقت كانت ألمانيا في أمسّ الحاجة للمال لتمويل الحروب المقبلة مع الأتراك العثمانيين الزاحفين إلى أوروبا. كما أن الكنيسة الكاثوليكية قد تعرّضت لضررٍ جسيمٍ نتيجةً للانتشار الواسع للروايات حول الفساد البابوي.
شكّل فردريك نموذجًا للقادة الألمانيين الذين فقدوا إيمانهم بالتوجّه السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد منحت أيديولوجية لوثر البديلة المغزى لحركتهم من حيث محدودية الجهود المبذولة سابقًا لكبح جماح سلطة الأباطرة والباباوات. خلال العقود التي أعقبت تحدي لوثر لشارل، شكّل الأمراء الألمان رابطةً سياسيةً منتزعين من شارل الاعتراف بأنه يجوز اعتبار الدول "البروتستانتية" دولًا شرعية ومقدّمين مصدر إلهام للحركات البروتستانتية في إنجلترا وهولندا.
وفي نهاية المطاف، قيض للاضطرابات البروتستانتية أن تضع حدًا للهيمنة الكاثوليكية على الحياة الفكرية وتشرّع الأبواب أمام أشكالٍ جديدةٍ من الاستقصاء العلمي وتمكّن من تطوير الدول- الأمم في القارة العجوز. ومن النتائج الأخرى التي ترتبت على الحركة البروتستانتية إفساح المجال لطريقة جديدةٍ في التفكير استنادًا إلى النظرية السياسية الكلاسيكية بدلًا من الكتاب المقدّس.
بعد ما يزيد على مئة عام، أطلق الفيلسوف الإنجليزي تحدّيه الكبير الخاص في مواجهة الأفكار الدينية، وتمنحنا الأحداث التي أعقبت ذلك شرحًا إضافيًا للخواص الرئيسية للاضطرابات. استهلّ لوك كتابه: "رسالتان في الحكم المدني" (الصادر عام 1689) بتقويض الحجة بأن الحق الإلهي للملوك كان ناجمًا عن البنية السياسية التي أجازها الله في جنات عدن. وفي رسالته الثانية، أعلن لوك وجهة نظره صراحةً بأن السبب الرئيسي الذي يدفع الناس إلى الإذعان لحكمٍ ما هو السعي إلى حماية ممتلكاتهم، الأمر الذي لا يمكن له أن يحدث ما لم يسد "توافق عام" بشأن معايير الحق والباطل، فالطغيان هو "مجانبة الحق في ممارسة السلطة" على حدّ تعبيره.
وساق لوك الحجة بأن الشخص الممارس للسلطة دون تفويضٍ من المجتمع لا يتمتع بالحق في أن يطاع. وفي نهاية المطاف، أسهمت هذه الفكرة في تسويغ تمرّد المستعمرات الإنجليزية الثلاث عشرة في أمريكا الشمالية ضد الملك، جورج الثالث. وفي العام 1776، أصدر توماس بين منشوره "الفطرة السليمة" المقروء على نطاقٍ واسع ليروّج لنسخةٍ متطرّفة من أفكار لوك. وقد ذهب بين في منشوره هذا إلى أن الملكية الإنجليزية فاقدةٌ للشرعية إذ إنها فُرِضَت على السكّان بالإكراه.
كان جورج الثالث يمتلك الجيش الأفضل، بيد أن القوة العسكرية لم تكن كافيةً لإنزال الهزيمة بالتمرد استنادًا إلى الأفكار المؤثرة لدى لوك ومريديه بشأن خصال المجتمع العادل. ومن العوامل التي لعبت دورًا لا يقلّ أهميةً في إحراز النجاح الأمريكي هو تطوّر مجموعة من الأشخاص المتحلّقين حول جورج واشنطن، بمن فيهم حليفاه ألكسندر هاملتون وجيمس ماديسون، الذين أدركوا كيفية العمل معًا لتحويل الأفكار المجرّدة للمنظّرين السياسيين إلى مؤسسات حيّة.
عارض الأمريكيون الثائرون ضد جورج الثالث فكرةً مفادها أنهم يمكن أن يذعنوا لحكومةٍ مركزيةٍ قوية. ومع ذلك، سرعان ما أدركوا أن "وثائق الكونفدرالية" التي وحّدتهم خلال الحرب كانت قاصرةً عن الحفاظ على وحدتهم في المستقبل. وتعدّ حقيقة التمكّن من عقد اجتماعٍ دستوري بغية تأسيس حكمٍ جديد مؤشرًا على أنه من الجوانب الهامة لنجاح الاضطرابات هو خلق فضاءٍ يتيح للناس مناقشة أفكارٍ جديدة. ولعلّ الإخفاق في الحفاظ على مركزيةٍ كهذه هو بالضبط السبب الذي أدى إلى أن تذهب جهود الفرنسيين لتأسيس حكومةٍ جديدة في أعقاب الثورة أدراج الرياح.
كان لينين قارئًا نهمًا للأحداث التاريخية التي شهدتها فرنسا ما بين العام 1789 وصعود نابليون إلى سدة الحكم في البلاد بعد 10 سنوات. ولعلّ ثمة أوجه توازٍ ذات مغزى بين الثورتين، فتمامًا كما قوّض القيصر الروسي نيكولا الثاني نظامه من خلال إدارته الحرب مع ألمانيا، لم يتوانَ الملك الفرنسي لويس السادس عشر عن هدم أركان حكمه والإطاحة بحلفائه خلال السنوات التي أعقبت دعوته لانعقاد مؤتمر الجمعية العامة في العام 1789 أملًا في حل الأزمة المالية الناجمة عن الدعم الذي أغدقته فرنسا على التمرّد الأمريكي ضد بريطانيا. ولكن في تلك الآونة، كان أفراد الشعب قد فقدوا ثقتهم في بلاطٍ ملكي رأوه أرعنًا وفاسدًا. لم يسبق لفرنسا أن طوّرت مؤسساتٍ منتخبةً قبل ذلك، وبالتالي افتقر البلاط الملكي لفكرةٍ واضحةٍ حول كيفية إدارة الجمعية العامة لدى التئامها.
وما لبث لويس السادس عشر أن أصبح سجينًا افتراضيًا في قصره، وفي غضون ذلك، أنشأت الجماعات المناوئة له مؤسسةً عسكريةً وحرسًا وطنيًا بديلين وشرعت في صياغة دستورٍ جديدٍ للبلاد. وحتى في تلك الآونة، كان لويس لينجو بجلده لو أنه قبل بالخيار العقلاني من خلال التخلي عن الملكية المطلقة ليغدو ملكًا دستوريًا، غير أنه أبى أن يفعل لا بل وتآمر مع ملوكٍ آخرين للإطاحة بحركة الإصلاح الفرنسية فقضى بذلك على الوسطيين الذين كانوا أمله الوحيد للاحتفاظ بعرشه. ونتيجةٍ لفعله هذا، شرّع لويس الأبواب أمام ماكسميليان روبسبير وغيره من الراديكاليين بأفكارهم الجذرية ممن ادعوا أن الاعتدال سيخرّب الثورة، التي لن تنجح إلا إذا أزيح الخونة عن مسرح الأحداث وجرى تأسيس دولةٍ جديدةٍ تستند إلى تعزيز الفضائل وتحلّ محلّ الدساتير المدنية المشوبة بالخلل الوظيفي والتي يميل إليها المعتدلون.
تمكّن لينين من الاحتفاظ بالسلطة من خلال حربٍ أهلية ضارية، وأسس جهاز شرطةٍ سرّية قتلت الآلاف، في حين مات الملايين أيضًا جرّاء المجاعة والمعارك والأمراض
بسط روبسبير سيطرته في عالم السياسة الفرنسية من خلال ترؤسه للجنة مراقبة المجهود الحربي الفرنسي، وقد عزز النفوذ الذي حظي به من خلال دفع السياسة الفرنسية إلى أقصى حدود التطرّف، فأطلق عمليةً موازية للقضاء أمكن من خلالها تنفيذ عمليات إعدام سريعة للمناوئين السياسيين (بما يشمل الحلفاء السابقين). كما أنه اعتمد على الإرهاب دعمًا لرؤيته للمجتمع الجديد وقام بتدمير المؤسسات الديمقراطية الناشئة والتي تم تشكيلها في سياق المساعي المتكررة لوضع دستورٍ جديدٍ في البلاد. وبعدما انتهت حياة روبسبير نفسه بالإعدام، تبددت قوة الثورة حتى أحكم نابليون قبضته على زمام السلطة.
لعلنا نورد المثال الفرنسي بوصفه نموذجًا للاضطراب الذي ينجح في تدمير المؤسسات السابقة ولكنه يفشل في بناء بديلٍ دائم، مما يؤكّد على أهمية توافر قيادة سياسية تتبنى رؤيةً واضحة عند السعي إلى الإطاحة بنظام حكمٍ قائم، وهي القيادة التي أتيحت من خلال فردريك السكسوني وقسطنطين وعبد الملك بن مروان. ولعلّ نقطة القوة التي تمتّع بها واضعو الدستور الأمريكي تبلورت من خلال فهمهم لإمكانية تحقيق التغيير الجذري من خلال التسويات. بينما يؤكد النموذج الذي قدمه روبسبير أن اللجوء إلى العنف لفرض المعايير الجديدة على السكان ما هو إلا وصفةٌ جاهزة للكارثة.
أين موقع لينين من هذه الصورة؟ حين عاد لينين إلى روسيا، كانت المؤسسات المركزية في النظام القيصري قد انهارت بالفعل بينما لم تحظَ الحكومة المؤقتة القائمة بولايةٍ انتخابية. سيطر لينين على جماعةٍ ثوريةٍ صغيرةٍ تزعّمت الحركة العمالية التي تشاركت السلطة مع الحكومة، ولولا مقدرته على تنظيم طاقمٍ من الأتباع والمرؤوسين، لما قيض للثورة التي تمنّاها أن تنجح خلال شهر أكتوبر من العام 1917.
وتمكّن لينين من الاحتفاظ بالسلطة من خلال حربٍ أهلية ضارية، وأسس جهاز شرطةٍ سرّية قتلت الآلاف، في حين مات الملايين أيضًا جرّاء المجاعة والمعارك والأمراض.
مع ذلك، أدرك لينين آخر الأمر أن السياسات التي اعتمدها خلال الحرب لن تجدي نفعًا في أوقات السلم، كاشفًا عن مقدرته على التكيّف مع الظروف، وهي المقدرة التي أسهمت في خلق القادة الناجحين خلال الاضطرابات السابقة. وهكذا، نفّذ لينين "سياسة اقتصادية جديدة" تقوم جوهريًا على مبدأ الرأسمالية الخاضعة لإدارة الدولة، مما حثّ الناس على الاهتمام بشدة في ما يمكننا أن نتكرّم بوصفه النظام الشيوعي المعدّل. مع ذلك، دمّر خليفته، ستالين، "السياسة الاقتصادية الجديدة" بفرضه برنامج التأميم الإلزامي. وقد أدى ميل نظام ستالين إلى سياسة القتل الجماعي إلى ضمان عدم القبول بالاتحاد السوفييتي بديلًا قابلًا للحياة للرأسمالية الغربية.
جسّد صعود النازية في القرن العشرين اضطرابًا عنيفًا عميقًا آخر وضاربًا جذوره في نظريةٍ تركّز على أنه من الحتمي أن تتخذ الأمم موقفًا تنافسيًا إزاء بعضها البعض. فتمامًا كما أن ثمة تنافسًا مستمرًا على البقاء ضمن كلّ أمةٍ على حدة، ويجب تكريس الحكومة المعنية لدعم "الظافرين" على حساب "المهزومين" في هذا الصراع، كذلك هو الحال في العلاقات الخارجية، فمن المحتم أن تتخذ تلك العلاقات شكل علاقات بين "ظافرين" و"مهزومين". كان هربرت سبنسر هو من نشر وجهة النظر هذه، وقد درج على تسميتها بالداروينية الاجتماعية، وتلقّت الدعم من علم تحسين النسل الزائف الذي طوّره فرانسيس غالتون المعاصر لسبنسر. وعلى الرغم من كونه إنجليزيًا، إلا أن نظريات سبنسر لاقت رواجًا أوسع في الولايات المتحدة، حيث جرى التذرّع بنظريات غالتون حول تحسين النسل لدعم سياسات تقييد الهجرة وعمليات إعقام السجناء الخاضعة للرعاية الحكومية بحجة إصابتهم "بالخلل العقلي". يبرز أدولف هتلر في هذا المقام بصفته شخصًا نجحت هذه القوانين في استقطابه.
ينبع النجاح السياسي الذي حققه هتلر بصورةٍ كبيرة من حقيقة أنه قد سبق لجمهور الناخبين أن سمع من مصادر أخرى تلك المزاعم التي أطلقها الزعيم النازي بشأن طريق ألمانيا (كان بوسعها أن تظفر بالحرب العالمية الأولى- جرى طعنها في الظهر- يمكن حلّ مشكلاتها من خلال إبطال المعاهدة التي أنهت الحرب). ليست هذه المزاعم إلا محض أكاذيب، بيد أنها حظيت بشعبيةٍ كبيرة. في البداية، كانت نسخة هتلر المتطرّفة من الداروينية الاجتماعية العنصرية قابعةً في ركنٍ هامشيٍّ من الفكر الألماني، ولكن نظرًا لعدائه للنازية، جرى التساهل إزاء هذه الأفكار خارج الدوائر النازية.
مع ذلك، لا تكفي الرسالة المضادة للشيوعية والمدعومة بالأكاذيب لتفسير صعود هتلر إلى السلطة. فلدى النظر بأثرٍ رجعي نحو الاضطرابات السابقة، سنتذّكر أن الأمر يتطلّب تفكيك الثقة بالحكم القائم. وفي هذه الحالة، نَجَمَ فقدان الثقة بصورةٍ رئيسية عن السياسات التي اتبعها المستشار الألماني الوسطي، فردًّا على الكساد الكبير، تبنى المستشار الحكمة المألوفة بخفض الإنفاق العام مما أفضى إلى زيادة تأثير الانكماش وألحق الضرر بتحالف اليمين- الوسط الذي كان السبب في ضمان فوزه بالانتخابات. وإذ أخذ الكساد بالتعمق، بدأ حزب هتلر يسترعي المزيد من الاهتمام، الأمر الذي تعزز بمقدرة هتلر على استغلال المنتجات التكنولوجية الجديدة، ولاسيما، الراديو، وأسلوبه الدعائي الحماسيّ. وحين قام الرئيس الألماني، باول فون هندنبورغ، بتعيين هتلر مستشارًا خلال شهر يناير/ كانون الثاني من العام 1933، كان الرجل مقتنعًا بأنه من الممكن إخضاعه للسيطرة.
استند الاضطراب الذي تسيّده هتلر إلى انهيار الثقة بالمؤسسات والجاذبية التي ميّزت سرديته حول الوطنية الألمانية بالنسبة لمجتمع يترنّح تحت ضربات الانهيار الاقتصادي والعنف، فضلًا عن المستوى العالي من الانضباط ضمن الحركة النازية
بيد أنه لم يكد يمضي شهران حتى أرسى هتلر الأسس القانونية اللازمة لإقامة دكتاتوريته. لما يكن الحزب النازي معروفًا بكونه مؤسسة إجرامية بعد حين التمّ شمل العالم في العام 1936 احتفاءً بدورة الألعاب الأولمبية في برلين، ولم يكن ثمة داعٍ للتمييز بين هتلر وبقية السياسيين المحافظين، فقد جرى الاستشهاد بالتوازي ما بين قوانين جيم كرو في الولايات المتحدة والتشريعات الألمانية المعادية للسامية دعمًا لحضور الولايات المتحدة في دورة برلين. علاوةً على ذلك، لعبت معاداة هتلر للشيوعية دورًا كبيرًا في هذا الصدد. وعطفًا على هذين العاملين، كانت الحكومات الأوروبية تخشى الدخول في حربٍ عالميةٍ ثانيةٍ مما تسبب في عزوفها عن التصدّي للزعيم النازي إلى أن باتت الحرب معه حتميةً.
استند الاضطراب الذي تسيّده هتلر إلى انهيار الثقة بالمؤسسات والجاذبية التي ميّزت سرديته حول الوطنية الألمانية بالنسبة لمجتمع يترنّح تحت ضربات الانهيار الاقتصادي والعنف، فضلًا عن المستوى العالي من الانضباط ضمن الحركة النازية، والتي أسس هتلر ضمنها نواة قيادية صلبة، ناهيك من أن صعوده قد استمد الدعم من العمى الذي ابتليت به المؤسسة السياسية في تلك الآونة.
ما الذي يسعنا اليوم أن نستخلصه من اضطرابات الأمس على اختلاف نتائجها؟ تتمحور قيمة التاريخ حول قدرته على مساعدتنا في تحديد أنماط السلوك القائمة في الحاضر والتي أفضت إلى عواقب خطيرة في الماضي.
ثمة مؤشرات اليوم بأن الأنظمة الليبرالية الديمقراطية في الولايات المتحدة والقارة العجوز ترزح تحت تهديدٍ جدّي، ومن أبرز هذه المؤشرات هو فقدان الثقة بالمؤسسات العامة. إن حركاتٍ قويةً تسعى إلى إضعاف النظام السياسي العام تجد ما يغذيها ويعزز موقفها في عوامل من قبيل رغبة الحكومات الغربية في السماح بالإفقار واسع النطاق، وإضعاف التنظيمات العمالية، والفشل في توفير الرعاية الصحية الكافية ناهيك من بقية ضروريات الحياة.
ولذلك أيضًا، إننا نشهد بأم أعيننا الهامش الثقافي يموّل هذه الحركات السياسية ذات النفوذ المتعاظم بالأفكار، فبعضها يلجأ إلى أفكار الداروينية الاجتماعية لدعم مزاعمه بأن الهجرة تفضي إلى إضعاف الرفاهية العامة على سبيل المثال. وتواجه أوروبا اليوم تهديدًا بزعزعة المعايير السياسية الراسخة جرّاء تطبيع الجماعات القومية، من أمثال الجماعة الداعمة لمسعى إريك زمور للظفر بمنصب الرئيس الفرنسي، أو حزب فيديسز في هنغاريا الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي، فيكتور أوربان. وفي المملكة المتحدة، قام بعض المنافحين عن اتفاقية بريكست بترجمة الاستثناء الإنجليزي التقليدي إلى شكلٍ من أشكال القومية المتطرّفة باستخدام مصطلحات تعكس عقيدة الداروينية الاجتماعية، وهي مصطلحات مماثلة لما يتبناه داعمو الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب. إن الغلبة التي يحرزها التصديق بالأكاذيب، مثل أكذوبة فوز ترمب بانتخابات 2020، تذكّرنا بعالم من الافتراضات الزائفة التي انتشرت في ألمانيا إبان الارتقاء الهتلري لسلّم السلطة. ولمجابهة الشروخ التي تعكسها تلك الأكاذيب الانتخابية أو الأوهام حول الهجرة أو حركات مناوئة التطعيم، ينبغي على الحكومات الغربية الإقرار بأن بسط التفكير الهامشي لسيطرته يعني أنها فشلت.
سيسهم الطريق إلى استعادة الثقة في مدّ يد العون إلى الفئات المنسية، في حين أن الثقة ستشكّل دليلًا هاديًا لأخذ الاضطرابات في الاتجاه الذي يفضي إلى الحفاظ على المجتمعات على غرار ما حدث أحيانًا في الماضي. ويجسّد المبدأ الأساسي للديمقراطية الليبرالية العقد المبرم بين الحكومات والمحكومين. تتحمّل الحكومات المسئولية عن كبج جماح الشركات التي تقوّض الرفاهية العامة وتنشر الأباطيل كما أنها تتحمل المسئولية عن ضمان حصول الناس على السلع والخدمات التي يحتاجونها. لذلك، ينبغي على الحكومات تبنّي ممارساتٍ مختلفةٍ عن الممارسات "السياسية المعتادة"، فلعلّها عبرة جوهرية نستخلصها من التاريخ: حين تخفق الممارسة العادية، إذًا لا محالة، التغيير آت.
تفيد المؤشرات بأن الوضع الراهن قد نضج وأن الاضطرابات على أهبة الحدوث، ولكن أي نوع من الاضطرابات سنشهد؟