أعاد العدوان الصهيوأمريكي الهمجي على غزة موضوع النشاط والنضال من أجل القضية على وسائل التواصل الاجتماعي للواجهة، وأحيا الجدل والنقاش حول فاعلية وضرورة مثل هذا النشاط، بين مؤيد ومشكك في جدواه، وأثار نقاش أعمق حول التغييرات الجوهرية التي فرضتها هذه الوسائل على أنماط الاحتجاج والمناصرة.
قبل عصر الإنترنت وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كان انخراط الفرد في العمل أو النشاط المجتمعي يتجلى في حضور الشخص المادي على الأرض، والمشاركة المباشرة في الحركات والاحتجاجات الشعبية. حيث اعتاد الناشطون والهياكل المجتمعية، باختلاف أنواعها، تنظيم الاجتماعات والمظاهرات والمسيرات والاعتصامات والإضرابات للدفاع عن الحقوق والقضايا المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة. وما رافقها من طباعة وتوزيع المناشير وكتابة المقالات في الصحف المعارضة والاجتماعات المباشرة وحملات كتابة الرسائل وغيرها من وسائل التنظيم المادي لحشد الدعم وإحداث التغيير.
في تلك الأيام، كانت المشاركة الشخصية والتفاعلات، وجهًا لوجه، هي العنصر المحوري في تحفيز المجتمعات وتعزيز التضامن بين الأفراد المتحمسين لقضايا محددة، وكان الاحتجاج في الشارع الوسيلة المثلى للضغط على الأنظمة والحكومات من أجل التغيير، مما أرسى الأساس أحيانًا لتحولات مجتمعية أوسع.
هذا التفاعل الشخصي خلق التزامًا كبيرًا من قبل النشطاء بالقضايا التي يدافعون عنها، وعزز الروابط بين الفاعلين على الأرض، ودفع النشطاء للتعمق في دراسة وتحليل وفهم جميع جوانب القضايا التي يدافعون عنها، ووفر الوقود اللازم لاستمرار النشطاء في العمل بجدية من أجل تحقيق أهدافهم. ولكن مع رواج المناصرة عبر الإنترنت في السنوات الأخيرة اختلف الحال.
مع زيادة تضييق الأنظمة، ومصادرة كثير من أدوات الاحتجاج، وجد الكثيرون متنفسًا في وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم والمناصرة والحشد لقضاياهم
مع زيادة تضييق الأنظمة والحكومات بمختلف أشكالها على المجتمع المدني والفعل السياسي بشكل عام، ومصادرة كثير من أدوات الاحتجاج والمدافعة من خلال عقود من التضييق وإضعاف البنى الفاعلة في المجتمع، وجد الكثيرون متنفسًا في وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم والمناصرة والحشد لقضاياهم، لدرجة نستطيع القول فيها أننا شهدنا هجرة النشاط والتفاعل المجتمعي من الشارع إلى شاشات الهواتف الذكية. هجرة كان لها فوائدها ومكتسباتها، ولكن في ذات الوقت جرت معها مجموعة من الإشكاليات.
على الرغم من أن الكثيرين يشككون في جدوى النشاط والتفاعل عبر الإنترنت ما زلت شخصيًا من المؤمنين بأهمية المدافعة والمناصرة الفردية والجماعية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وحاليًا مع ما نشهده من إبادة جماعية لأهلنا في غزة من قبل المحتل الصهيوأمريكي ومع تواطؤ حكومات وشركات العالم، أستثمر الكثير من وقتي في المناصرة عبر الإنترنت، حتى لو لم أكن مؤثرًا، حيث إن هذه المنصات توفر القدرة على إيصال صوت من لا منبر لهم مع كل التضيقات التي تفرضها الشركات المالكة لها، بالإضافة لقدرة هذه الوسائل على تضخيم الأصوات والوصول إلى جمهور أوسع مما يؤدي إلى زيادة الوعي وحشد الدعم للقضية، كما أن الانخراط في النشاط على الإنترنت لفترة طويلة ساعدني شخصيًا في التعرف على مدافعين ونشطاء على الأرض، والتشبيك والتعاون معهم في المدافعة عن قضايا مختلفة عبر السنين، مما عزز التأثير الجماعي.
كما أنني شهدت حالات كثيرة أثرت فيها بعض هذه الحركات والحملات عبر الإنترنت على السياسات، وأحيانًا ساعدت في تحقيق تغييرات تشريعية أو تحولات في الرأي العام، مما أظهر التأثير الحقيقي للدعوة الرقمية، طبعًا الحالات التي نجحت في ذلك غالبًا ما كانت مصحوبة بأنشطة مادية على الأرض.
ففي النهاية بإمكان المناصرة المتسقة والاستراتيجية عبر الإنترنت أن تساهم في إحداث تغييرات طويلة المدى من خلال تشكيل الخطاب العام، وتغيير المفاهيم، وتعزيز ثقافة التفاعل والنضال حتى لو استغرق هذا التأثير بعض الوقت، ولكن لا يمكننا تجاهل صعود (The Slacktivism)، المصطلح الجديد الذي لم أجد تعريبًا له، ولكن يمكننا أن نقول عنه (النشاط أو النضال المتراخي)، وهو قيام المرء بأنشطة بسيطة عبر الإنترنت من أجل الانخراط في قضية ما بطرق تنطوي على القليل من الجهد الشخصي، بنقرة بسيطة أو إعجاب أو مشاركة، ومن ثم يتنفس الصعداء ويرتمي على الأريكة وهو يشعر بالإنجاز وأنه أدى دوره في الدفاع عن القضية!
وقد أثار هذا النمط جدلًا حول فعاليته وأصالته، حيث إن الأفراد قد يعبرون علنًا عن دعمهم لقضية ما دون الانخراط الفعلي فيها، ودون بذل الجهد اللازم لتحقيق التأثير الملموس، وبمجرد انتهاء الترند سيتناسى هذا الشخص القضية برمتها وينتقل لشأن آخر.
لا أعلم ما هي الدوافع وراء ذلك ولكنها قد تكون محاولة من قبل المرء للتخلص من الشعور بذنب التقصير، وأحيانًا قد تكون محاولة للحصول على استحسان اجتماعي، أو تحسين صورته ضمن دوائره الاجتماعية، وبغض النظر عن الدوافع فهي تثير تساؤلات حول النية وراء استعراض مثل هذا الدعم الإلكتروني، سواء كان ذلك مدفوعًا برغبة صادقة في التغيير، أو مجرد استعراض الموقف الأخلاقي للفرد. وهو ما يثير التخوفات بأن انتشار هذا النمط من "النضال المتراخي" عمل كالمخدر للنشطاء والناس العاديين وأثناهم عن الانخراط الفعلي في الفضاء العام، وثبط الهمم عن الخروج للشارع وفرض الضغط الحقيقي من أجل التغيير، لدرجة أنه منع الناس من التعمق بشكل حقيقي في دراسة وفهم القضايا والالتزام بها، مما ارتد سلبًا على هذه القضايا.
وعلى الرغم من هذه التخوفات المحقة فما زلت أشجع الجميع على الانخراط في الفضاء العام والمدافعة عن القضايا العادلة، حتى لو كانت البداية مع شكل من أشكال "النضال المتراخي"، كل ما أنصح به لتجاوز هذه المخاوف وانعكاساتها هو إضافة بعض الالتزام لهذا النشاط، ومع مرور الوقت سيجد المرء نفسه منخرط بشكل أكثر جدية في أنشطة المدافعة والمناصرة والحشد الرقمية، وبدلًا من نقرة بسيطة أو إعجاب متماشي مع ترند سيصبح المرء مدافعًا رقميًا عبر الإنترنت، سيتحول لباحث يصنع المحتوى، ويبني الشبكات، ويحشد المدافعين، وينظم الفعاليات أو يشارك في تنظيمها بشكل استراتيجي، مما يمكنه من صنع أثر حقيقي على القضايا والمواضيع التي يعمل عليها، خاصة في مجالات رفع الوعي أو تعزيز الحوار أو حشد الدعم أو التوثيق أو المساءلة والمحاسبة.
ومن المهم أن يبقى المرء على اطلاع ومشاركة في الحراكات الدائرة على الإنترنت وعلى الأرض ما أمكن، مع فهم أن تأثيرات المناصرة يمكن أن تظهر بطرق متنوعة وغير مباشرة في بعض الحالات، وبعد وقت قد يكون طويل أحيانًا.
إن كان لديك وجود على وسائل التواصل الاجتماعي، مهما كان بسيطًا، أرجو أن تستغل بعضه في المناصرة، لا تتوقف عن الحديث والدعوة لقضاياك وللقضايا المحقة، الإعجاب والمشاركة قد تكون البداية، ومع الالتزام ستعقبها مرحلة صنع المحتوى والدعوة والمناصرة والحشد والتشبيك، مما يؤدي للمساهمة في التغيير.
ورجاءً لا تتوقف أبدًا عن الحديث عن فلسطين.