تحت نشوة الانتصار على الاتحاد السوفيتي، وجد المفكر الأميركي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، أن اللحظة كانت مناسبة حينها لإعلان "نهاية التاريخ". ولم تكن تلك النهاية إلا انهيار أكبر خصم للنموذج الليبرالي الأميركي الذي توقع فوكوياما أن انتصاره سيكون نهائيًا، لكنه يعود إلينا اليوم ليضرب أطروحتَه في "مقتل"، معلنًا أن الحاضنة الاجتماعية للنموذج الليبرالي عبّرت عن رفض حاسم لليبرالية والطريقة الخاصة التي تطور بها فهم المجتمع الحر منذ ثمانينيات القرن العشرين.
هذا هو الدرس الأكثر عمقًا الذي استخلصه فوكوياما من فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، إذ إن تداعيات هذا الفوز لا تقتصر على التغييرات الجيوسياسية الكبيرة التي ستميز الفترة القادمة، بدءًا بملف الهجرة ووصولًا إلى ملف حرب أوكرانيا والعلاقات مع أوروبا، بل تطال أيضًا النموذج الذي قدّمته أميركا للعالم باعتبارها القوة الوحيدة المتبقية على مسرح الصراع الدولي ليس عسكريًا واقتصاديًا فحسب، بل أيديولوجيًا أيضًا، فالأفكار المنافسة للنموذج الليبرالي تلاشت بتلاشي الاتحاد السوفيتي.
من استثناء إلى قاعدة
لم يكن يساور فوكوياما شكّ بأن انتخاب ترامب في العام 2016 هو من باب الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والشاذ الذي يُحفظ ولا يقاس عليه. وكان لاعتقاد فوكوياما حينها بعض المسوغات، فلم تكن هيلاري كلينتون بخصم نموذجي بل كانت نموذجًا ضعيفًا للديمقراطيين، فضلًا عن كون ترامب حينها لم يفز بالأغلبية الشعبية، وإنما بأصوات المجمع الانتخابي، ولم يدم حكمه إلا 4 سنوات بعد هزيمته أمام بايدن، ما عزز الانطباع أنّ ما حصل كان "غفلةً إن لم نقل صدفةً لأن الأمور عادت إلى طبيعتها".
لكنّ الانتخابات الأخيرة 2024 كانت عكس ذلك تمامًا، حيث اكتسح ترامب النتائج شعبيًا بالإضافة طبعًا إلى حصوله على أغلبية الأصوات في المجمع الانتخابي. ويظنّ ترامب بهذا الاكتساح أنّه حصل على تفويض شعبي لفعل ما يريده.
ويبدو أن هذا الأمر كان قاسيًا على فوكوياما - المعروف بتسرعه في إطلاق الأحكام القاسية على التاريخ والمجتمعات - حيث انقلبت الآية عنده: "فالحالة الشاذة كانت رئاسة بايدن أما صعود ترامب فكان تدشينًا لحقبة جديدة في السياسة الأميركية وربما العالمية، لأن الأميركيين صوتوا وهم على علم تام بمن هو ترامب وبما يمثله"، وفقًا لعبارة فوكوياما في مقاله المنشور على صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية.
لا تقتصر تداعيات فوز ترامب على التغييرات الجيوسياسية الكبيرة، بل تطال أيضًا النموذج الذي قدّمته أميركا للعالم باعتبارها القوة الوحيدة المتبقية على مسرح الصراع الدولي
الليبرالية الكلاسيكية والنيوليبرالية
حدثت، حسب فوكوياما، "رِدَّة" في النموذج الليبرالي الأميركي، فالليبرالية الكلاسيكية بوصفها عقيدة "مبنية على احترام الكرامة المتساوية للأفراد من خلال حكم القانون الذي يحمي حقوقهم، وقدرة الدولة على التدخل في هذه الحقوق"، تعرّضت خلال العقود الأخيرة لتشوّهين كبيرين، تمثل الأول في صعود "الليبرالية الجديدة التي تقدس الأسواق وتقلل من قدرة الحكومات على حماية المتضررين من التغيير الاقتصادي"، فيما تمثل التشويه الثاني في "صعود سياسات الهوية أو ما قد يطلق عليه الليبرالية المستيقظة، واستخدام سلطة الدولة بشكل متزايد، ليس في خدمة العدالة، بل لتعزيز نتائج اجتماعية محددة لمجموعات خاصة".
يرى فوكوياما أن هذان التشوهان الكبيران أديا إلى "تحول كبير في الأساس الاجتماعي للسلطة السياسية، الأمر الذي أشعر الطبقة العاملة أنّ الأحزاب السياسية اليسارية لم تعد تدافع عن مصالحها، ولذلك بدأت في التصويت لأحزاب اليمين، وبالتالي انتصر الجمهوريون بأصوات الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء"، فلم يفز الجمهوريون بمجرّد الرئاسة بل أضافوا لرصيدهم الكونغرس بغرفتيه "الشيوخ والنواب".
ليس ترامب معنيًا فقط، حسب فوكوياما، بضرب وهزيمة الليبرالية الجديدة وتلك المستيقظة، بل أكثر من ذلك، هو يمثل "تهديدًا على الليبرالية الكلاسيكية ذاتها، وذلك في قضايا عدة". وعليه، فإن ولايته الجديدة لن تختلف عن الأولى. كما يرى فوكوياما أن السؤال المطروح ليس حول "نيات ترامب بل عن مدى قدرته على تنفيذ ما يُهدّد به بالفعل؟".
يُقلّل فوكوياما من أهمية ما يزعمه بعض الجمهوريين من أن "الضوابط والتوازنات في النظام السياسي الأميركي ستمنع ترامب من القيام بأسوأ ما لديه"، فهو جادّ وقادر على تنفيذ وعوده، لا سيما تلك المتعلقة بفرض رسوم جمركية على واردات جميع الدول لا سيما الصين بنسبة 60%، وهو إجراء من شأنه أن يُخلّف "تأثيرات سلبية على التضخم والإنتاجية والعمالة، ويؤدي إلى تعطيل سلاسل التوريد، ويوفر الفرصة لمستويات عالية من الفساد والمحسوبية، ويستدعي ردودًا انتقامية هائلة من جانب بلدان أخرى"، علمًا بأن الصين تهدد بالرد بالمثل، وأوروبا تُجهّز نفسها للتصدي لسياسات ترامب العدوانية تجاهها.
أما فيما يتعلق بالهجرة، فإن فوكوياما يرى في مقاله أن الرئيس المنتخب "لم يعد يريد إغلاق الحدود، بل يسعى إلى ترحيل أكبر عدد من المهاجرين غير النظاميين، الأمر الذي سيخلف آثارًا مدمرةً على عدد من الصناعات التي تعتمد على العمالة المهاجرة، كما أنه سوف يشكل تحديًا هائلًا من الناحية الأخلاقية"، وفقًا لمقال فوكوياما.
وعلى الصعيد الداخلي أيضًا، تعد الروح الانتقامية التي عبّر عنها ترامب خلال حملته الانتخابية تهديدًا "لسيادة القانون"، إذ سيعمد ترامب لاستغلال السلطة بشكل سيئ لتصفية حساباته مع خصومه الذين يعتقد أنهم ظلموه، وذكر من بين هؤلاء الرئيس بايدن، والرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة مارك ميلي، والرئيس السابق باراك أوباما، والعضو السابق في مجلس النواب ليز تشيني. بالإضافة إلى ذلك، يسعى ترامب إلى فرض المزيد من القيود على الإعلام، ويلوّح بسحب تراخيص بعضها وفرض عقوبات على بعضها الآخر.
خارجيًا، يرى فوكوياما أن أكبر التهديدات التي يحملها ترامب تتعلق أساسًا بتسليم أوكرانيا إلى روسيا، عبر تشديد الخناق على كييف للاستسلام، وذلك عبر "وقف تزويدها بالأسلحة، كما فعل مجلس النواب الجمهوري لمدة 6 أشهر في الشتاء الماضي".
الأمر الآخر أن ترامب الذي يهدد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي "الناتو" لن يدّخر جهدًا حسب فوكوياما في إضعاف هذا الحلف مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على أوروبا والعلاقات عبر الأطلسي، حيث ستتقوّض قدرة الحلف على الوقوف مستقبلًا في وجه روسيا والصين، كما سيؤدي ذلك إلى فجوة كبيرة في العلاقات الأميركية الأوروبية. ويكفي للقيام بذلك أن يتنكّر ترامب للمادة الخامسة في ميثاق الحلف والمتضمنة للدفاع المتبادل.
ذات الخلاصة تنطبق على حلفاء واشنطن في شرق آسيا. فعلى الرغم من نبرة ترامب القوية ضد الصين، إلا أنه - حسب فوكوياما - معجب كبير بالرئيس الصيني شي جين بينغ، على غرار إعجابه ببوتين. الأمر الذي قد يجعله، كما في حالة أوكرانيا، على استعدادٍ لإبرام صفقة مع بكين بشأن تايوان.
بالنسبة للشرق الأوسط، يرى فوكوياما، أنه سيبقى استثناءً من هذا التغير الكبير في السياسة الخارجية الأميركية، حيث سيحافظ ترامب على دعم حروب نتنياهو في غزة ولبنان، وربما مع إيران التي لا يبدي ترامب تساهلًا معها.